بالواقع يبدو أن الإنسانية قد نسيت الفاشية والمحرقة، وكذلك جريمة النكبة الأولى، ولهذا السبب تسمح لما تُسمي نفسها "الدولة اليهودية" بأن تكرر اليوم ضد شعبنا الفلسطيني جرائم النكبة بنكبة جديدة رغم تواصلها منذ 76 عاماً دون توقف، وكذلك أساليب الفاشية والمحرقة التي كان الأوروبيين ومن ضمنهم اليهود هناك أنفسهم ضحيتها قبل حوالي ثمانين عاماً.
لكن وأمام اتساع التضامن مع كفاح شعبنا الذي لم نشهد مثيلاً سابقاً له، ورقعة الغضب الشعبي العالمي بعديد من الدول بحق الجرائم المستمرة لدولة الاحتلال منذ حتى ما قبل 7 أكتوبر، ومقاضاتها دولياً من أصدقاء أممين، بدأت تبرز ظواهر تدني التأييد لإسرائيل وسياساتها وتكشف حقيقة الفكر الصهيوني العنصري وتصاعد الدعوة لأشكال مقاطعتها، وهو أمر يجب استغلاله والبناء عليه من جانبنا قبل فوات الأوان مع اتساع رقعة اليمين الشعبوي في العالم، خاصة مع توقع فوز ترامب بانتخابات الرئاسة الذي لن يضطر لتوازنات في حزبه الجمهوري بالعلاقة مع نتنياهو وإسرائيل، وبقاء نتنياهو على رأس الحكم إذا تمكن من الحفاظ على ائتلاف حكومته بمزيد من مسلسل الجرائم بما فيها في رفح .
إن أولئك الذين يساعدون ويتعاونون اليوم في تنفيذ واحدة من أبشع الجرائم ضد الإنسانية بالعصر الحديث وأبشع الفظائع التي شهدتها البشرية منذ عقود، إما تواطئاً أو تعاوناً عملياً أو بشكل سلبي أو بالتظاهر بعدم الرؤية، أو عدم السمع أو الفهم لما يدور، أو التجاهل أو التقليل من أهمية وإخفاء الأخبار حول التطهير العرقي والإبادة الجماعية المستمرة أو دعمها وتبريرها بشكل نشط من خلال ادعاء "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس"، يتحملون هم المسؤولية عن الجريمة ذاتها تماماً، خاصة الولايات المتحدة الامريكية والتي رغم تباين الآراء بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو اليوم وبعض التصريحات اللفظية الموجهة إلى المجتمع الأمريكي أساساً بهدف توازنات الحفاظ على وحدة حزبه الديمقراطي لأغراض انتخابية رغم صهيونيته، فإنها قد قدمت حمولات نحو 300 طائرة و 50 سفينة تحتوي على 35 ألف طن من الذخائر الأمريكية وصلت إلى إسرائيل منذ بدء عدوان الإبادة.
وهؤلاء غالباً ما يكونوا أحفاداً سياسيين وأيديولوجيين على الأقل، إن لم يكن وراثياً لأولئك الذين قاموا بالفعل بتسليم فقراء اليهود إلى جانب السكان الأوروبيين المناهضين للنازية إلى الألمان أثناء الحكم والاحتلال النازي لدول أوروبية ليُمارس بحقهم الفظائع لفتح آفاق الهجرة الاستيطانية إلى فلسطين لاحقا لمن تبقى منهم.
إن الجذور التاريخية لحزب الليكود الإسرائيلي الحاكم الآن بزعامة نتنياهو ليست سوى تيار "الصهيونية الشمولية" المستوحى من الفاشية كفكر شمولي نفسه الذي ولد في فترة ما بين الحربين العالميتين.
هذا التيار قد رسخ وعمل من أجل ما يسمى "حق اليهود في وطن قومي" وأنشأ بذلك هذا الكيان القائم على حساب أرضنا وحقوقنا ووجودنا دون إغفال لدور التيارات الأخرى بالحركة الصهيونية التي ساهمت جميعها في ذلك بالوصول إلى ما يجري الآن دون انتظار مبررات.
ففي عام 1948 أشار العشرات من اليهود البارزين، وفي مقدمتهم العالم ألبرت أينشتاين إلى تشابه هذا التيار الشمولي الصهيوني مع النازية، واستذكروا ممارساته الإرهابية الإجرامية ضد الفلسطينيين والبريطانيين وحتى بعض اليهود أنفسهم الذين اختلفوا مع هذا التيار آنذاك. كما تم لاحقاً اتهام هذا التيار ونتنياهو شخصياً بالإضافة إلى عصابة الحكم القائم الآن بالمسؤولية عن اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين، الذي وصفه أحد الصحفيين الإسرائيليين بالعمل الذي شكل انتصاراً لروح الشمولية الصهيونية المتنفذة الآن التي لا تريد لأي عملية تسوية سياسية النجاح بالمطلق لأن ذلك يتعارض مع مشروعهم الصهيوني المتدحرج .
واليوم، يتم التأكد من تحذيرات هؤلاء اليهود المعارضين للسياسات الصهيونية التي أطلقت في ذلك الوقت، وهو الأمر الذي يتكرر اليوم لكن بصور أوسع وأشمل على المستويات الشعبية بالعالم ويساهم في أحداث عدد من المتغيرات الدولية. ومثال على ذلك ما يجري بالولايات المتحدة اليوم وخاصة بأوساط الحزب الديمقراطي وإمكانية ظهور مرشح رئاسي ثالث هنالك بعد امتناع أعداد كبيرة منهم من تأييد بايدن كمرشح رئاسي عن الحزب .
ويقول الصحفي الأمريكي توماس فريدمان "إنها لحظة خطر عظيم، "عندما يتعلق الأمر بتقليص الدعم لإسرائيل من الولايات المتحدة والبقية من العالم"، ويضيف فريدمان "إما أن تخرج إسرائيل من هذا الأمر بعلاقة جديدة مع الفلسطينيين في عام 2024 أو أن نعود إلى عامي 1947 و1948 لكن بأسلحة جديدة".
في إسرائيل يحكم الآن تحالف من اليمين المتطرف العلماني لنتنياهو مع اليمين الأصولي الديني المتطرف، ويذهب بعض المعلقين إلى حد وصف رئيس الوزراء الإسرائيلي نفسه بأنه "الأب الروحي للفاشية الإسرائيلية الحديثة" .
وينفذ هذا التحالف الحاكم الآن رؤية "الحل النهائي" الخاص به في فلسطين الذي تم التعبير عنها مراراً، وهو نفس التحالف الذي يسعى إلى تعميم الحرب في جميع أنحاء الشرق الأوسط، متبعاً أفكار مؤسسي الجغرافيا السياسية الألمانية النازية القائمة على "التفوق العرقي" و "عدم المساواة" التي ألهمت هتلر في ذلك الوقت.
وقبل عقد من الزمن كان الفرق بينهم وبين النازيين والفاشيين الأوائل، هو أنهم لا يسعون إلى الإبادة الجماعية لشعبنا الفلسطيني، بل كانوا يسعون "فقط" إلى حرماننا من "حقوق الإنسان الأساسية" وتنفيذ سياسات الاضطهاد والقمع البشع لإخضاعنا وكي وعينا بهويتنا الوطنية وحقنا بتقرير المصير من خلال أساليب مختلفة ترسخت تحديداً في زمن حزب العمل الإسرائيلي الذي أخفق بذلك رغم محاولات مختلفة ومنها خلق البدائل من الدمى والمتعاونين، والتي يحاول نتنياهو اليوم تكرارها في غزة.
أما الآن فينتقل حكام إسرائيل تدريجياً من مرحلة حرماننا من الحقوق وممارسة الاضطهاد والقمع إلى مرحلة الابادة والتهجير القصري لشعبنا الفلسطيني، أي من النازية "المبكرة" إلى النازية "الناضجة"، وهي سياسة تستهدف كل شعبنا بما فيه من المقاومة كما والسلطة الوطنية المستهدفة أيضاً في جعلها سلطة دون سلطة حقيقية وسيادة على الأرض.
فهم لم ينتظروا هجوم المقاومة في 7 أكتوبر الماضي للقيام بذلك، لقد بدأوا قبل ذلك بكثير منذ جرائم ما قبل النكبة الأولى ولاحقاً في الضفة الغربية بما فيها القدس ومقدساتها، عندما دعا وزيرهم بن غفير، الذي وصفه خصومه السياسيون في إسرائيل بالسادي، مراراً وتكراراً إلى إبادة الآلاف من الفلسطينيين وتم ذلك بأشكال أقل حدة في محرقة حوارة وغيرها من القرى ولاحقاً من التوحش في عدد من مخيماتنا بالقتل والتدمير والترحيل كما في مسافر يطا والأغوار والقدس، وما هو حاصل من تنكيل بحق أسرانا الأبطال ومن ضمنهم القائد مروان البرغوثي الذي يحاولون اغتياله .
وقبل ذلك تم توحيد القدس كعاصمة لهم بمباركة أمريكية حتى الآن وتوسيع الاستيطان ليشمل 60% من ما يفترض أن تكون أراضي الدولة الفلسطينية وضم مناطق منها وترحيل سكان مناطق أخرى، وتم إقرار قانون يهودية الدولة. وقبل عام أبرز نتنياهو خارطته في الأمم المتحدة وأمام كل العالم، التي استبدل فيها كل فلسطين "بإسرائيل الكبرى". فنتنياهو لم يكن بحاجة لسبب ما أو لذريعة، كان ينفذ مقولة "شعب بلا أرض جاء لأرض بلا شعب" وإلى إقامة مملكة إسرائيل الكبرى والتي ضم إلى خارطتها بن غفير وسموتريتش أراضي من دول أخرى.
هؤلاء "لم يتعلموا شيئاً ولم ينسوا شيئاً" من التاريخ اليهودي، دون أن يدركوا أنهم بذلك يضعون أسس سقوطهم.
أما بالنسبة للكثير من الحكومات الأوروبية، فقد أصيبت وبنفاقها بفقدان الذاكرة وإلى أين قادت الأفكار الشمولية النازية قبل قرن من الزمن وما حدث لشعوبها، وإلى أين يمكن أن يقود ظهورها بشكل جديد اليوم على شاكلة ما هو قائم بدولة الاستعمار الإسرائيلي.
إذا كانت الأساليب التي تستخدمها إسرائيل اليوم ستؤدي إلى تهجير قصري أو "طوعي" لشعبنا بما يترافق مع جرائم الإبادة الجماعية الجارية وفق مخططات يجري الأعداد لها ومن ضمنها الميناء العائم فإن العواقب لن تكون مقتصرة على الشرق الأوسط فحسب، بل في مناطق مختلفة من العالم إن لم يكن بأكمله والذي أصبح يتأثر يومياً بما يجري في فلسطين وتحديداً في غزة، لأن مثل هذا "النصر" لفكرهم الشمولي سيسهم في هدم الأيديولوجية الديمقراطية والإنسانية التي تبنتها البشرية وبجزء منها الغربية حتى ولو بشكل لفظي على الأقل بعد الانتصار على النازية عام 1945 وتأسيس هيئة الأمم المتحدة وما تبعها من قوانين دولية ومواثيق ومعاهدات التي لم يتم تنفيذ أي منها بخصوص قضيتنا الوطنية وأولها القرار 181 الأممي .
إن انتصار مثل هذه الأساليب في فلسطين سيشكل مساهمة هائلة في ظهور مختلف الأساليب الفاشية وفي تصعيد الحروب من جانب الغرب كله كحد أدنى الذي يرفض اليوم مبادرات روسية لوقف الحرب القائمة بالوكالة بأوكرانيا، تماما كما مهد انتصار الديكتاتور فرانكو في إسبانيا عام 1939 الطريق للحرب العالمية الثانية وتمادي الفاشية حينها.
فمن الواضح اليوم أن هناك وحدة عضوية بين سياسات الغرب والناتو العدوانية في أوكرانيا بحق روسيا، وسياسة حكومة الاحتلال الإسرائيلي الفاشية في غزة والحرب الأمريكية التجارية ضد الصين وتهديدها فيما يتعلق بمسألة تايوان وبروز قوى النازية الجديدة بأوروبا. وجميعها تمثل الجهد العام الذي يبذله "الغرب الجماعي" للحفاظ على هيمنته العالمية وإعاقة التحول بالنظام الدولي.
وليس من قبيل الصدفة البسيطة أنه في مستوى التطبيق السياسي، فإن المتشددين فيما يتعلق بأوكرانيا هم نفس المتشددين فيما يتعلق بغزة ، أمثال الأوروبية فان دير لاين والأمريكيين فيكتوريا نولاند وأنتوني بلينكن وجيك سوليفان، الذين لا يمكن إلا أن تنبع قوتهم من اختيارات قوى مهمة داخل مركز القوة الحقيقي في الغرب المتمثل في "إمبراطورية المال" والدعم اليهودي الصهيوني لها، وهي نفسها التي تملي سياساتها على موظف مجموعة روتشيلد السابق ماكرون رئيس فرنسا وغيره من المسؤولين الأوروبيين أيضاً في دول أخرى مثل ألمانيا واليونان وغيرها. ومهما تطورت الأحداث في هذه الجبهات الثلاث سيكون لها تداعيات كبيرة على الجبهات الأخرى الأوروبية التي تعاني دولها من تفاقم أزماتها المختلفة وستبرز صراعات جديدة تهدد الأمن والسلم الدوليين وفق نشر نظريات الفوضى الخلاقة وتحقيق الديمقراطية بالحروب التي تحركها مجمعات الصناعة العسكرية وعقلية التطرف الأمريكي.
والمفارقة اليوم أن اليمين المتطرف الشعبوي الأوروبي وخاصة الذين يحظون بمساندة ودعم الحركة المسيحية الصهيونية بالولايات المتحدة يتخذون موقفا مؤيداً للحركة الصهيونية وحكام إسرائيل وتأكيد الدعم المطلق لدولة الاحتلال الإسرائيلي في عدوانها بحرب الإبادة الجارية ضد شعبنا، وهذا أمر سيتسع دوليا إذا ما عاد اليميني الشعبوي ترامب إلى البيت الأبيض ليترسخ بذلك أكثر فأكثر تحالف بروكسل تل أبيب واشنطن في محاولاتهم لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل هزيمة النازية بالحرب العالمية الثانية التي كان للجيش الأحمر وتضحياته النصيب الأكبر فيها .
لقد تعرّت الصهيونية وكيانها في ما يجري بمخيمات الضفة وفي غزة أساساً بعد 7 أكتوبر كحركة عنصرية نازية فيما تفعله من إبادة جماعية وتطهير عرقي بحق الفلسطينيين وأصبحت بسبب ذلك تحتضر على المسرح الدولي وفي ذاكرة الشعوب ولكن تعميق أزماتها الجارية اليوم في مؤسسات دولة الاحتلال ومجتمعها وجيشها مشروطة بإنهاء الانقسام الذي حصل بفعل انقلاب أساء لقضيتنا وأضعفنا، وعودة اللحمة من خلال الوحدة الوطنية للكل الفلسطيني في أطار الإرتقاء وتفعيل منظمة التحرير ودورها بعد أن أصبح واضحاً على أن المستهدف من الصهيونية وكيانها ليس طرفا دون طرف آخر، إنما هو الكل الفلسطيني وهوية تحرره الوطني، الأمر الذي يستوجب النظر إلى الأمور وإلى بعضنا البعض بعيون جديدة لتحديد الرؤية والبرنامج والأدوات المطلوبة في هذه المرحلة الحرجة من قضية شعبنا وانتصارها .