أصبح من الواضح أن الإدارة الأميركية، وبشكل خاص الرئيس بايدن، يتفق مع نتنياهو في هدفه بالتقدم إلى رفح، لضمان تصفية حركة حماس في قطاع غزة، الاختلاف بين بايدن ونتنياهو يكمن في التكتيك لا في الاستراتيجية والأهداف، صحيح أن بايدن يتعرض إلى ضغوطات دولية، وأخرى داخلية في الحزبين الديمقراطي والجمهوري، لكنه يعمل على التسويف والتضليل في التصريحات في محاولة جادة لمنح إسرائيل فرصة أكبر لمواصلة عدوانها، وعدم توقف الحرب حتى تطمئن الإدارة الأميركية أنه تم القضاء على حركة حماس ككيان سياسي في غزة، والقضاء على قوة القسام وسرايا القدس بشكل خاص.
واشنطن شريك في العدوان منذ اليوم الأول، وما المساعدات التي أسقطتها جواً، إلا خطوة في سياق نفاق سياسي خبيث، وما الميناء البحري إلا خطوة أخرى في منح إسرائيل المزيد من الوقت لمواصلة العدوان دون فتح المعابر البرية على نحو واسع ينقذ أرواح أهل غزة من مجاعة غير مسبوقة في التاريخ الحديث.
لا عقل ولا منطق ولا أخلاق يحكم هذا العدوان، ولا يمكن تبرير هذه الهمجية السادية النازية في التعامل مع المدنيين، والعمل على تجويعهم، وإرهابهم، وإذلالهم، وتهجيرهم، وإعادة تهجيرهم، واستهداف مجمع الشفاء، وشيطنته، ثم الانسحاب منه، ثم العودة إلى استهدافه، لعل القاتل لم يتأكد من قتل القتيل، لعله لم يتأكد أن الناس ماتوا، فاستحضر الطائرات ثانية لتقصف المنازل حول المجمع، والمجمع، ثم يقتحم الجنود مشفى الشفاء للإجهاز على البقية، وتعرية الأهالي وإجبارهم ثانية وثالثة ورابعة على التوجه إلى الجنوب.
ما فعلته إسرائيل في غزة على مدى ما يقارب من ستة أشهر، أكبر دليل على أن البداية لم تكن يوم السابع من أكتوبر، بداية العدوان، وبداية التهجير، وتصفية الوجود الفلسطيني، وتدمير الحياة، والإجهاز على كل مقوماتها، وما حدث منذ يوم الثامن أكتوبر لم يكن انتقاماً من يوم السابع منه، بل فرصة التقطتها إسرائيل لتنفيذ نوايا مسبقة، واستكمال مشروعها الاستيطاني الذي يستند في الأساس إلى التهجير ثم الإحلال، فإسرائيل منذ الخامس عشر من أيار عام 1948 ليست دولة، بل مشروع استيطاني طويل المدى، طويل النّفَس، والهدف النهائي لهذا المشروع، ليس استعمار السكان، بل التخلص منهم، وليس فقط في غزة، وإنما أيضاً في الضفة الغربية، وهذا لا يعني التخلص من جميع السكان، وإنما يحتمل المشروع الإبقاء على عدد منهم يعيشون كمواطنين من درجة ثالثة داخل هذا المشروع المتوحش.
المشروع الاستيطاني الصهيوني لم يكتمل بعد، والولايات المتحدة لن تتوقف عن دعمه بكل السبل، بما فيها سياسات الاحتواء، والتلون، والتسويف، والتضليل، والتمرير، والتصريح، وتقديم الفتات من المساعدات للسلطة العمياء، أو للشعب الفلسطيني في لحظات الجوع الكافر، لكن السلوك الهمجي لن يتغير، والعكس صحيح، سيزداد توحشاً، وقسوة، وعنفاً، وإرهاباً، وخير شاهد على ذلك ما قالته مؤسسة "فوريزيك آركيتكتشر" من أن إسرائيل تستخدم إرهاب الجغرافيا، وتعمل على هندسة عمليات الإبادة في غزة.
إسرائيل باختصار تعمل على تحويل قطاع غزة إلى أرض لا تصلح للحياة، والهدف هو دفع الفلسطيني إلى ترك الأرض بعد تحويلها إلى خراب ودمار، لا تفوح منها إلا رائحة البارود وجثث الموتى، وذلك ما حذرت منه في الساعة الأولى التي طلبت فيها إسرائيل من سكان شمال غزة الانتقال إلى وادي غزة، وقلت أن على الأهالي أن يدركوا أنهم إذا تركوا بيوتهم في الشمال، فإنه لن يكون بمقدورهم العودة إليها، وحتى تجبر إسرائيل هؤلاء على عدم العودة، عملت على تدمير المربعات السكنية وسوتها في الأرض.
العبرة في الخواتيم، فالأيام القادمة هي الأكثر خطورة في هذا العدوان، إسرائيل ستتقدم إلى رفح، والمواجهة الأخيرة هي الفاصلة التي لا بد للفلسطيني أن يصمد فيها بعد كل هذه التضحيات، لمنع إسرائيل من تحقيق هدفها الرئيسي من عدوانها، وهو تحقيق "الترانسفير في اتجاه صحراء سيناء، وأما الرهائن من الإسرائيليين، فهم لعبة يمكن للكيان الصهيوني التضحية ببقيتهم مقابل تحقيق أهداف الصهيونية التي لا تضع اعتباراً حتى لإنسانها، وإنما للهدف الأسمى لديها، وهو تهجير أصحاب الأرض، والخلاص من الكثافة السكانية الفلسطينية، بما فيها النساء والأطفال، ولكن هذا المشروع فاقد للبوصلة، همجي، وعشوائي، ومجنون، وتائه، فيما الفلسطيني لم يفقد البوصلة، ويعرف أن ليس لديه من خيار سوى الموت أو البقاء في حضن أرضه، والصراع طويل المدى.