في مثل هذا الشهر، من العام 2011، اندلعت ثورة السوريين المفاجئة والعفوية والعاصفة، والتي كانت مستحيلة، إذ لم يكن أحد يتوقع قيامة هذا الشعب، الذي عاش لعقود محروماً من السياسة، في بلده سوريا، في إطار نظام حديدي، فرض عليه الطاعة والصمت والخوف، وقوّض كل إجماع أهلي أو مدني وهيمن على الدولة والمجتمع معاً. وكانت تلك الثورة يتيمة لأنّها افتقدت للأصدقاء الحقيقيين، وربما لو كانت من دون الأصدقاء الإقليميين والدوليين، الذين تحلّقوا حولها، وأضرّوها، لكانت تخفّفت من كل الاستشراس الداخلي والخارجي في إجهاضها.
أيضاً، كانت تراجيدية نسبةً لكل التداعيات التي نجمت عنها، من قتل وخراب وتشريد ومآسٍ، بفعل بطش النظام، وحلفائه "النظامين الإيراني والروسي"، وبحكم التخلّي الدولي عنها، لا سيما التنكّر لحق السوريين في التغيير السياسي، وبالحرّية والكرامة والمواطنة، في بلدهم سوريا.
منذ البداية، تمّت إشاعة أوهام ثلاثة خاطئة، حول تلك التجربة، أصابتها في مقتل. الأول، يفيد بحتمية سقوط النظام وانتصار الثورة، وهذا اعتقاد إيماني ورغبوي، لا علاقة له بالواقع وبالتجارب التاريخية، إذ أنّ الثورات قد تنتصر أو تنهزم، كلياً أو جزئياً، كما قد تنحرف أو تدخل في مساومات، تبعاً لموازين القوى والمعطيات المحيطة، وكيفية الإدارة.
الثاني، وتبعاً لما تقدّم، التسرّع بأخذ الثورة نحو العسكرة والسلاح، من دون ممهدات كيانية وسياسية، باعتباره وحده يمكن أن يُسقط النظام، في استخفاف بالكفاح الشعبي المتدرج، وبأهمية تطوير الحالة الكفاحية عند السوريين، وبالاعتماد على أطراف خارجية، سرعان ما فرضت أجندتها؛ وفي النتيجة، فقد أخفقت تلك التجربة سياسياً وعسكرياً. صحيح إنّ الثورة الشعبية ما كانت لتُسقط النظام، لكنها كانت ستحرمه من استخدام قوته العاتية، كما كان من شأنها الحفاظ على السوريين في أرضهم وبيوتهم، ربما في انتظار ظرف أنسب ووضع أفضل، ثم انّه بالعمل المسلح لم يسقط النظام بل هشّم ثورة السوريين ونجم عنه تشريد ملايين منهم.
الثالثة، نجم عن اول نقطتين، أيضاً، التعويل على القوى الخارجية، وتالياً الارتهان لها، إذ باتت لتلك القوى (الولايات المتحدة والدول الأوروبية وتركيا وبعض دول الخليج) الكلمة الأساس في تشكيل كيانات الثورة السورية، وصوغ خطاباتها، وتحديد مستوى صراعها ضدّ النظام وأشكاله السياسية والعسكرية في كل مرحلة، علماً أنّ تلك الأطراف الخارجية لم يكن لديها قرار بالتغيير في سوريا لاعتبارات تخصّ الفاعلين الدوليين والإقليميين، وبما يتلاءم مع مصلحة إسرائيل.
إضافة إلى تلك الاعتقادات الخاطئة، ثمة أسباب داخلية وخارجية، ذاتية وموضوعية، أسهمت في إخفاق ثورة السوريين، يكمن أهمها في أنّ الجوزة الصلبة للنظام لم تنكسر، لا مؤسسات الدولة المدنية، ولا العسكرية، لا سيما بسبب الدعم الذي يلقاه من إيران وروسيا.
في المقابل، تبين أنّ المجتمع السوري غاية في التفكّك، وعلى شكل مجموعات سكانية، يكاد لا يجمعها جامع، وهو أمر اشتغل النظام طويلاً عليه وفق سياسة "فرّق تسد"، بوضع كل جماعة طائفية أو مذهبية أو إتنية أو مناطقية او عشائرية في مواجهة الأخرى. وبديهي، فإنّ تعمّد النظام رفع كلفة الثورة، بإنهاك واستنزاف المجتمع السوري، بتدميره الممتلكات والعمران وتشريد الملايين، لعب دوراً كبيراً في ذلك. يشمل ذلك، أيضاً، أنّ القوة التي تصدّرت المعارضة، وهيمنت على الحراكات الشعبية، ذهبت إلى الحدّ الأقصى من دون ممهدات، أو كيانات سياسية، أو إمكانيات، وهي ثغرات استغلتها الأطراف الخارجية "الداعمة"، للهيمنة على المعارضة وأخذ الثورة نحو العسكرة، ما أفقدها حاملها الشعبي، ونحو مصارعة النظام بالسلاح، ما حمّل الشعب السوري فوق ما يحتمل، من دون قدرة في الدفاع عنه، وضمن ذلك فإنّ أسلمة الفصائل العسكرية، أدّت إلى تقويض الإجماعات الوطنية، وانشاء إمارات عسكرية ذات إيديولوجيا مغلقة، ما أسهم في تضييع الشعب السوري وثورته، وأفاد النظام.
وباختصار، فإنّ الطبقة السياسية التي تصدّرت المعارضة أخفقت في إنتاج قيادة، أو مرجعية قيادية، مدنية وعسكرية للثورة السورية، كما أخفقت في عدم محافظتها على خطابات الحرّية والديموقراطية والكرامة، التي صدّرتها الثورة في بداياتها، ما أضرّ بصدقيتها إزاء العالم وإزاء شعبها.
في إطار المشكلات الذاتية للثورة السورية يأتي تجاهل المسألة القومية في سوريا، لا سيما ما يتمثل بالمسألة الكردية، إذ لم يُنظر إليها باعتبارها جزءاً من المسألة السورية، ومن الثورة الوطنية الديموقراطية، وإنما باعتبارها مسألة خارجية، وفقاً للمنظور التركي. طبعاً ذلك لا يعفي القوة الكردية المهيمنة، وهي حزب الاتحاد الديموقراطي، من مسؤوليتها عن إثارة هذه المخاوف عند السوريين، لا سيما مع اختلاف الأحزاب الكردية ذاتها، حول رؤيتهم لمستقبل الكرد ومستقبل سوريا، فضلاً عن ممارسات هذا الحزب التسلطية في المناطق التي يسيطر عليها، أي أنّ المسؤولية تتعلّق بالطرفين، وإن كانت المعارضة السورية تتحمّل المسؤولية الأكبر، كونها صاحبة المبادرة، لذا فهي مطالبة بتوضيح موقفها، فكما أنّ السوريين العرب مرتبطون بهويتهم العربية، فهذا ينطبق على الكرد الذين لديهم، بالمثل، ارتباطهم بأرومتهم القومية.
في هذا الإطار يمكن ملاحظة التحقيب لثورة السوريين بالمراحل الآتية:
المرحلة الأولى: اتّسمت بالحراكات الشعبية، التي غلب عليها طابع الاحتجاج السياسي والتظاهرات والاعتصامات الشعبية. وامتدت من آذار (مارس) إلى تشرين الأول (أكتوبر) 2011.
المرحلة الثانية: يمكن التأريخ لها في الفترة من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) 2011، إلى حزيران (يونيو) 2012. إذ تمّ إدخال الجيش إلى المعركة، بأسلحة الدبابات والمدفعية والطائرات، ما نجم عنه تزايد واتساع ظاهرة الانشقاقات من الجيش، والتمهيد للتحول من الثورة الشعبية السلمية إلى الصراع المسلح، مع بقاء حالة من المزاوجة بين النضال الشعبي السلمي.
المرحلة الثالثة: يمكن التأريخ لها من آب (أغسطس) 2012 إلى آب (أغسطس) 2013، بسيطرة الجماعات المسلحة المعارضة على مناطق في المدن السورية، ما أضعف شوكة النظام وكسر هيبته. لكن ذلك أدّى أيضاً إلى استشراس النظام وإمعانه في التقتيل والتدمير في هذه المناطق، وتهجير سكانها، أو تشديده الحصار عليها. وفي ذلك استطاع النظام التخلّص من ثقل الكتل الشعبية المتمرّدة عليه، وحوّلها إلى عبء ومشكلة بالنسبة للثورة، الأمر الذي فاقم مشاعر الإحباط والضياع، بخاصة أنّ الجماعات المسلحة لم تثبت القدرة أو الأهلية في إدارة المناطق التي باتت تحت سيطرتها، بسبب نزاعاتها وضعف قدراتها، وحالة الفوضى والخروج عن القانون، وتحولها إلى مجموعات سلطوية، فاسدة، ومناهضة للحرّية، في أماكن سيطرتها، ما نجم عنه إزاحة الشعب من معادلات الصراع ضدّ النظام.
المرحلة الرابعة: وهي المرحلة التي بدأت مع الانشقاقات والاحترابات بين الجماعات المسلحة. هكذا، لم تعد المعادلة الصراعية قائمة على شعب في مواجهة النظام ومن معه، أو بين قوى شعبية تتوخّى الحرّية والكرامة والديموقراطية، وبين نظام سياسي قائم على الاستبداد والإفساد، إذ باتت ثمة عوارض أخرى مهمّة وفاعلة ومقرّرة. وقد نجم عن ذلك أنّ الجماعات العسكرية الإسلامية، المدعومة من دول إقليمية، باتت هي التي تحتل المشهد العسكري، كما نجم عنه في ما بعد هيمنة الأطراف الخارجية على الصراع السوري، من جهة النظام، إيران وروسيا، ومن جهة المعارضة، الولايات المتحدة والدول الغربية، وتركيا وقطر.
انتهت الثورة السورية، كحالة فعل شعبية، وانتهت المعارضة السياسية إلى مجرد هياكل تتبع الأطراف الداعمة لها، لكن حلم السوريين، أو أملهم بالتغيير السياسي في بلدهم، باتجاه الحرّية والمواطنة والديموقراطية، ما زال يمتلك مشروعيته، وما زال يتطلّب من السوريين المعنيين نوعاً من مبادرة لبناء كيان سياسي سوري جامع يمثلهم ويعبّر عنهم.
أما مصير سوريا اليوم، فقد خرج من أيدي النظام المتهالك، سياسياً وأخلاقياً واقتصادياً واجتماعياً، كما خرج من يد الشعب السوري المغلوب على أمره، أكان في بلده أو في بلدان اللجوء والشتات، وبات ينتظر في عهدة التوافقات، أو المتغيّرات، الدولية والإقليمية.