بقلم: د. عمرو الشوبكي
هي ظاهرة لافتة أن يكون في إسرائيل أحزاب شديدة التطرف تستخدم مفردات «داعشية» في خطابها السياسي بحق الفلسطينيين، وتبرر قتل المدنيين والأطفال، ولكنها في الوقت نفسه أصبحت جزءاً من منظومة سياسية ديمقراطية حديثة، تقبل بقواعدها وبتداول السلطة، ولهم نواب في البرلمان ووزراء في الحكومة، وربما نجد واحداً منهم رئيساً للوزراء، سيتعامل معه العالم ولن يصنفه إرهابياً، حتى لو اختلف معه أو انتقده.
وفي الوقت نفسه، فإن قوى التطرف العربية -وبخاصة «الإسلاموية» منها- لم تنسجم مع أي منظومة ديمقراطية، ومثَّلت تهديداً لها، أو أخذتها تكأة للتمكين الأبدي من السلطة، في مفارقة ذات دلالة.
والحقيقة أنه من المهم مناقشة أسباب هذا الفارق بين النجاح في ترويض التطرف مع المنظومة السياسية الحديثة في إسرائيل، رغم بنيته العقائدية التحريضية والعنصرية، وبين فشل تيارات التطرف العنيف والجماعات الإسلاموية المتشددة في التطبيع أو الاندماج مع أي مشروع لبناء دولة قانون، أو المساهمة في بناء منظومة سياسية حديثة وديمقراطية. فـ«دواعش» إسرائيل من اليهود كانوا جزءاً من منظومة بلادهم الحديثة، و«دواعش» العرب من المسلمين سعوا لهدم أي منظومة مدنية حديثة.
والحقيقة أن هناك عدة أسباب وراء ذلك، جانب منها مرتبط بفارق السياق السياسي والثقافي بين الواقعين العربي والإسرائيلي، فالأخيرة أسست دولتها على نظام ديمقراطي ودولة قانون لليهود فقط، أي أن القواعد التي توافق عليها الآباء المؤسسون لدولة إسرائيل كانت هي الديمقراطية ودولة القانون التي قصروها على الشعب اليهودي، ولم يسحبوها على أي شعب آخر غيرهم، ومن هنا حين سيطرت أحزاب التطرف اليهودي على المنظومة السياسية الحالية، وجدوا قاعدة ديمقراطية متوافقاً عليها «يهودياً» واضطروا أن يحترموها.
أما في العالم العربي فهناك توافق على دولة القانون، ولكنها غير مطبقة في معظم البلدان، أما الديمقراطية فهي ما زالت متعثرة في مجمل البلاد العربية، وهناك من لا يعدُّها من الأصل ذات أولوية، وبالتالي لم تستطع قيمة الديمقراطية ومبادئ دولة القانون أن تترسخ عربياً، وتكون من القوة لتصبح قادرة على ترويض ولو جانباً من قوى التطرف.
إن الديمقراطية ودولة القانون تعدَّان أحد الشروط الأساسية لترويض جماعات وأحزاب التطرف، ولأنهما شكَّلا الأساس الذي قامت عليه التجارب الأوروبية الكبرى التي دعمت قيام إسرائيل، فهذا يعني أن المنظومة المدنية الحديثة التي تأسست في إسرائيل لم تكن في «غربة» عن منظومة الدول الكبرى التي دعمتها ووجدت معها نقاط تشابه في تاريخها الاستعماري، كما أن اليمين المتطرف الإسرائيلي له «ابن عم» في الغرب متمثل في اليمين المتطرف الأوروبي والأميركي الذي يكره العرب والمسلمين، حتى لو لم يدعوا لقتلهم وإلقاء القنابل الذرية عليهم، كما تفعل منظومة التطرف الإسرائيلية مع الفلسطينيين.
نعم، لقد نجحت إسرائيل في ترويض التطرف، بمعنى أنها جعلته يعيش وفق قواعد المنظومة الديمقراطية الحديثة، ويحترم قواعد الانتخابات ونتائجها، حتى لو فاز فيها خصومه، وفي الوقت نفسه لم تنجح هذه المنظومة في ترويض خطاب التطرف، بمعنى تقليل حجم تحريضه وعنصريته وعنفه، وجعله أكثر اعتدالاً.
إن هذا الترويض نجح في جانب واحد فقط، أي في جعله جزءاً من المنظومة الحديثة؛ بل وفي بعض الأحيان أصبح هو المنظومة نفسها، أي أن هناك وزراء ومسؤولين إسرائيليين كباراً ورجال دين يتبنون مقولات «داعشية»، فنتنياهو نفسه استدعى «نبوءة إشعياء» اليهودية لتبرير مواصلة حربه على غزة، وقال: «نحن أبناء النور بينما هم أبناء الظلام، وسينتصر النور على الظلام».
وأما الحاخام مانيس فريدمان فقال: «دمِّر أماكنهم المقدسة، واقتل رجالهم ونساءهم وأطفالهم ومواشيهم»، وإن تلك هي قيم التوراة التي ستجعل الإسرائيليين «النور الذي يشع للأمم التي تعاني الهزيمة بسبب هذه الأخلاقيات (الغربية) المُدمِّرة» وإنها الطريقة الوحيدة «للتخلص من ثبات الفلسطينيين ومقاومتهم المستمرة».
خطاب منظومة الحكم الدينية والسياسية في إسرائيل مملوء بهذه المفردات «الداعشية»، ولكن رموزه وقادته لا يعيشون حياة «الدواعش» في الجبال والكهوف، ويتكلمون لغات أجنبية، ويقابلون نظراء لهم في الغرب، حتى لو انتقدتهم التيارات الليبرالية واليسارية هناك.
أما في العالم العربي، فقد انشغلنا كثيراً بخطاب قوى التطرف، وتجاهلنا أمرين: الأول هو غياب -أو ضعف- هذه المنظومة الحديثة المتمثلة في دولة القانون القادرة على ترويض التطرف، والثاني أن البناء العقائدي لجماعات التطرف والتشدد الديني يرفض من الأصل قيم الحداثة ومبادئ الدولة المدنية الحديثة، ويعدُّها إما كفراً مثل «داعش»، أو مخالفة لشرع الله ويجب رفضها مثل «طالبان»، أو يعدُّها مجرد وسيلة من أجل الوصول إلى السلطة والتمكين الأبدي منها، وتغيير طبيعة الدولة القائمة، مثلما حاول «الإخوان المسلمون».
في العالمين العربي والإسلامي، لم تنجح منظومة الدولة المدنية الحديثة في ترويض التطرف أو التشدد الديني، إلا حين أصبح لا ينتمي إلى تيارات الإسلام السياسي، مثلما جرى مع حزب «العدالة والتنمية» في تركيا الذي يمكن وصفه بالحزب المحافظ وليس المتطرف.
سيبقى ترويض التطرف له معنى واحد في إسرائيل، وهو قبول قواعد الديمقراطية والحداثة، ولا يستطيع حتى اللحظة هدمهما، ولكن هذه القواعد، وعلى خلاف تجارب كثيرة، لم تنجح في تهذيب تطرفه، إنما عمَّقته لأنه موجه ضد الآخر الفلسطيني أو الأغيار.
عن الشرق الأوسط