جاء أنتوني بلينكن هذه المرة كحريص على إسرائيل وكعادته منذ بدء الحرب محذرا مجلس الحرب من الاستمرار دون خطة أو أن اجتياح رفح سيتسبب في عزل إسرائيل، يا لوقاحته بعد كل الإبادة التي ارتكبتها بغزة يخشى عليها من العزلة بعد أن عزلت الولايات المتحدة ما يكفي من النظم والشعوب في العالم دون أن ترتكب أي فظائع لكن هذه إسرائيل، وفي اللحظة التي يجيء بلينكن محاولاً الحفاظ على مصلحة تل أبيب لا أعرف إذا كان مدركاً أن بنيامين نتنياهو يعمل كل ما بوسعه لإزاحته ورئيسه.
«سندخل رفح بدعم أميركي أو بدون» هكذا رد رون ديرمر وزير الشؤون الإستراتيجية المقرب من نتنياهو ولحقه داني دانون أحد أقطاب «الليكود» والسفير السابق في الأمم المتحدة بالقول: إذا كان علينا دخول رفح من دون دعم أميركي فسوف يتعين علينا القيام بذلك. هكذا بكل صلافة ترد الحكومة الإسرائيلية على النصيحة الأميركية الحريصة على صورة الدولة الإسرائيلية. وعندما وضع بلينكن الخيارات السوداء في حال عدم وجود خطة بالفوضى وتنامي العنف رد نتنياهو بغرور، «إذاً، علينا أن نكون هناك لسنوات».
هذه هو بيت القصيد المنسجم مع خطة نتنياهو التي أعلنها بالسيطرة من البحر للنهر، أي أن يكون كل غزة في الغلاف الأمني الإسرائيلي. وهذا ما تفعله إسرائيل على الأرض ولم تكن عملية العودة لاقتحام مستشفى الشفاء سوى بروفة للسيطرة والعمل الأمني الإسرائيلي في القطاع على نمط الضفة الغربية.
الصور التي تنتشر من غزة والبنية التحتية التي تشيدها إسرائيل تشي بما يقول نتنياهو دون أن يبلغ بلينكن بذلك، فالطريق الواسع الذي قامت بشقه يربط كيبوتس «بائيري» شرق جحر الديك بشارع الرشيد غربا ويقسم القطاع إلى قسمين، وأبعد من ذلك تظهر صور الأقمار الصناعية إقامة نقطتي تفتيش كبيرتين في هذا الشارع بحجم معسكرات عسكرية، واحدة تقطع شارع صلاح الدين الرئيس منتصف القطاع والثانية على شارع الرشيد بجوار البحر ما يعني التحكم بقطاع عزة والحركة بداخله، وتظهر الصور العادية قيام المعدات الإسرائيلية بتركيب الغرف الجاهزة وبناء المعسكرين.
لا يمكن فصل كل ما يتم إنشاؤه في غزة عن الخطط الإستراتيجية التي يتم تغليفها بالغلاف الأمني، لكنها أبعد كثيراً حد الرغبة بإعادة الاستيطان في القطاع لكن أيضا لا يمكن فصلها عن الممر البحري الذي تقوم الفرق الهندسية الإسرائيلية بإنشائه بالتعاون مع شركة فلسطينية وبالمناسبة، قامت إسرائيل بتوفير المعدات قبل شهر من بدء العمل بل وأبعد، قبل شهر أيضاً جرى فحص أسماء العمال والمهندسين الفلسطينيين أمنياً. وللمفارقة، كان هذا قبل أن يعلن الرئيس الأميركي عن الممر الذي أصاب «حماس» بقدر من اللعثمة مرة تقول، إنه كان مطلباً لها ومرة تقول، إنها تشتبه بهذا الممر الذي تذهب التكهنات بعيدا في تفسير أهدافه وجميعها متشائمة ما بين تهجير الفلسطينيين وبين السيطرة على الغاز في بحر غزة.
السؤال: هل سيجتاح جيش إسرائيل رفح، أم أن تلك تهديدات للضغط التفاوضي أو الابتزاز للعالم؟ بالتأكيد سيتم اجتياحها لأن إسرائيل تدعي أن هناك أربع كتائب عسكرية لـ»حماس» وعليها مقاتلتها وعدم تركها. لكن لماذا لم تفعلها وتستمر بالتهديد الصاخب.. هل بسبب تواجد الكتلة البشرية الكبيرة؟ تلك حجة غير مقنعة فبإمكان إسرائيل ترحيلهم أو حتى نصب بوابات، فبوابة «إيريز» يوميا كانت تفحص 20 ألف عامل قبل الحرب ما يعني أن عشر بوابات كفيلة بفحص مائتي ألف يوميا، ما يعني أن إخلاء مليون ونصف المليون يحتاج إلى أسبوع فقط وقد فعلت شيئا كهذا على مفترق الشهداء لكن يبدو أن التأخير الإسرائيلي له أسباب أبعد.
الدخول الإسرائيلي لرفح يعني سيطرة إسرائيل كاملا على غزة ولهذا استحقاقاته، لأن رفح تعني السيطرة على معبري رفح البري وكرم أبو سالم التجاري الذي تعبر منه المساعدات هذا أولا، ولكن يمكن أن يكون معبر المنطار بديلا وهو المعبر الذي أنشاه الأوروبيون ببنية تحتية هائلة لكن الأهم من ذلك أن دخول رفح والسيطرة على الحدود الفلسطينية المصرية يعني إسدال الستار على مشروع الهروب الجماعي نحو سيناء والتهجير القسري نحو الجنوب المصري وهذه خيارات لم تسقطها إسرائيل بعد.
وفي سياق آخر، فإن السيطرة على معبر رفح البري تعني وقف الخروج الطوعي القائم حاليا، ليس هناك أرقام دقيقة عن عدد الذين خرجوا من غزة بعد بدء الحرب إذ تبلغ التقديرات بين مائة ومائة وعشرين ألفا تمكنوا من المغادرة، صحيح أن الرقم أقل كثيرا مما تحلم إسرائيل لكنه يشكل 5% من سكان غزة وهو أفضل كثيرا من عدم الخروج فالاستعجال في احتلال رفح والمعبر يوقف هذا النزيف فلا أحد سيسارع في الذهاب نحو المعبر الإسرائيلي.
سيفعلها الجيش الإسرائيلي وسيصيب عدة أهداف بضربة واحدة، أسابيع سيكون هاجر مزيد من الغزيين، أسابيع سيكون الرصيف العائم قد تم تجهيزه بديلا عن كرم أبو سالم للمساعدات والتهجير واستراتيجياً للغاز، أسابيع يكون الوقت أقرب للانتخابات الأميركية التي ستتعرى أكثر عندما يتم اجتياح رفح وتتلقى ضربة بعد أن يظهر ضعفها أمام الإرادة الإسرائيلية. مزيد من الوقت سيكون في صالح إسرائيل ... هل هذا يبرر التلكؤ الإسرائيلي في دخول رفح؟