اضطراب المثقفين الفلسطينيين إزاء نكبة غزة

رغم الآلام والمآسي والأهوال غير المسبوقة التي عانى منها أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة طوال أزيد من خمسة أشهر، لا زال البعض يروج لاعتبار أن إسرائيل لم تحقق أهدافها، رغم كل الأهوال التي شهدها فلسطينيو غزة، مع قتل عشرات الألوف منهم وتشريد معظمهم وتدمير بيوتهم وبناهم التحتية وجعل القطاع مكانا غير صالح للعيش، ومع مئات ألوف الفلسطينيين دون مأوى ويلهثون وراء لقمة غذاء أو شربة ماء، ولو من السماء.

عليه، تبدو تلك المقولة غير المطابقة للواقع، كأنها صادرة عن عقلية رغبوية أو قدرية، إن لم نقل مضللة أو لا مبالية، لتجاهل أصحابها أن هدف إسرائيل الحقيقي هو إخضاع الشعب الفلسطيني، وإزاحته من الزمان والمكان، وهو ما فعلته آلتها العسكرية بوحشية، في كل دقيقة من كل يوم وليلة طوال الأشهر الخمسة الماضية، بذريعة الرد على "حماس" وإنهائها.

لعل خطورة تلك المقولة المؤلمة، وسطحيتها، تكمن في موازاتها بالنهي عن نقد خيار العملية الهجومية، التي شنتها "القسام" على مستوطنات غلاف غزة، والتي استغلتها إسرائيل كفرصة سانحة لها للبطش بفلسطينيي غزة، بحجة عدم جواز "نقد الضحية"، أو بذريعة تأجيل النقد لما بعد المعركة (الأصح المذبحة المستمرة). فعدا عن روح الوصاية على القضية الوطنية، على طريقة "المفتين" وأدعياء احتكار الحقيقة، فإن ذلك الادعاء ينزع عن الشعب، ولو بغير قصد، مكانة الضحية، كأن الضحية هي فقط "حماس" وبالأصح قيادتها، وليس ذلك الشعب الذي يتعرض لبطش إسرائيل، قتلا، وتشريدا وتدميرا وتجويعا، وهو أعزل.

يفيد التذكير هنا بأن الحركة الوطنية الفلسطينية بات لها من العمر 59 عاما، مع تجربة ثرية ومكلفة، أي إنها في معركة مع إسرائيل منذ ستة عقود، وأن مشكلة الفلسطينيين تكمن في افتقادهم للإطارات الشرعية، ولمراكز صنع القرار، ولآليات المشاركة في صنع السياسات والخيارات السياسية والكفاحية، في ظل قيادات تميل إلى الفردية، واحتكار السياسة، وتنأى بنفسها عن المراجعة النقدية لمسارات التجربة، وعن الخضوع للمساءلة، وهذا ينطبق على "فتح" وعلى "حماس" والجبهات، منذ شعار "كل السلطة للمقاومة" في الأردن، إلى شعار "طوفان الأقصى" في غزة، مرورا بالانخراط في الحرب الأهلية والتحول إلى سلطة في لبنان، وعقد "اتفاق أوسلو"، والتحول إلى سلطة على الشعب، تحت سلطة الاحتلال، وصولا إلى العمليات التفجيرية- الاستشهادية في الانتفاضة الثانية، والانقسام الفلسطيني، ما يعني أن مشكلة الفلسطينيين تكمن في غياب النقد والمساءلة، بعيدا عن الاتهامات والشتائم، وليس في كثرته.
السؤال هنا، متى كان انتقاد "فتح"، والقصد قيادتها، على خياراتها السياسية والكفاحية، وعلى إدارتها العمل الفلسطيني، انتقادا للضحية؟ ومتى كان انتقاد بضعة أشخاص في قيادة "فتح" أو "حماس" أو أي فصيل، انتقادا للشعب الفلسطيني المجزأ والمشتت والمغلوب على أمره والذي دفع باهظا كل مرة ثمن تلك السياسات والخيارات، مع تأكيد أن الحديث يدور عن دور العوامل الذاتية، مع تفهم غلبة الظروف والعوامل الموضوعية؟ 

في الواقع، هكذا تفكير يبطن مداهنة للقوى المهيمنة، والسكوت عن غياب الأطر التشريعية على الصعيد الفصائلي والوطني، ونبذ التفكير العقلاني والنزعة النقدية، كجزء من العمل السياسي، والأخطر من كل ذلك تربية الناس على الخضوع للفرد، أو تحويل أي فصيل أو جماعة، إلى مجموعة موالين أو مريدين، يقدسون هذا الخيار أو ذاك دون أي نقاش.
أيضا، مقولة النهي عن النقد تلك، تبطن محاولة للتغطية والتضليل، إذ إن هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وفقا لخطاب محمد الضيف، جاء كخيار مصمم منذ سنوات، كيوم موعود، لمعركة تتأسس على وهم "وحدة الساحات"، وكجيش لجيش، وصاروخ لصاروخ، بطريقة الضربة القاضية، وليس وفقا لقواعد المقاومة المسلحة طويلة الأمد، التي تتطور بالتدريج، وتكبد عدوها خسائر بالنقاط، إدراكا منها لحدود قوتها ومكامن ضعفها، وحدود قوة العدو ومكامن ضعفه، مع دراسة مدى مناسبة العوامل والمعطيات العربية والدولية لهذا الشكل الكفاحي أو ذاك، بعيدا عن العواطف. أيضا فإن أصحاب تلك المقولة يتعمدون، للترويج لوجهة نظرهم، تصوير أي نقد للخيار الذي تبنته "القسام"، كأنه يمس شرعية المقاومة المسلحة، للتغطية على حقيقة أن ما حصل يختلف عن المقاومة المسلحة طويلة الأمد، التي من أهم ميزاتها استنزاف العدو، وعدم تمكينه استنزاف شعبها، وإدارة كفاحها وفقا لقدرة شعبها على التحمل، وعلى أساس تعزيز صموده، والتوازن بين الكلفة والمردود لجهة الجدوى السياسية النسبية.
يأتي ضمن ذلك السجال اعتقاد البعض، بعد خراب غزة، أنه أمسك بـ"الحلقة المركزية" (بحسب الحكيم جورج حبش رحمه الله)، أو أنه آن الأوان لقرع الجرس، لتوحيد ركام الفصائل، أو القوى الوطنية الفلسطينية، وتاليا استيعاب حركتي "حماس" و"الجهاد" في المنظمة، كأن الأمور تجري بجرة قلم أو تبعا لحالة اضطرارية وآنية، علما أن الجرس قرع ولا يزال، منذ عقود، بواقع أفول الحركة الوطنية الفلسطينية بكياناتها وخطاباتها وأشكال عملها وعلاقاتها وكفاحها، بعد أن تقادمت ولم يعد لديها ما تضيفه سوى تحولها إلى سلطة أو سلطتين في الضفة وغزة.
ليست المشكلة في تبني شخص ما أية فكرة، فهذا طبيعي، وإنما في تنصيب البعض نفسه كمفتٍ للشؤون الفلسطينية، وكوصي على آراء الناس، وتحريمه نقاش هذه القضية أو تلك، إلا وفقا لأهوائه وانحيازاته، بدل إخضاع كل مسألة للنقاش، على قاعدة احترام حرية الرأي وتقبّل الرأي الآخر، في تجربة وطنية لم تبدأ اليوم، إذ بات لها ستة عقود، مرت فيها بتحولات واختبارات كبيرة وخطيرة. وهذا الكلام ينطبق على تحويل الانتفاضة الشعبية الثانية إلى انتفاضة مسلحة، وفق نمط العمليات التفجيرية، وعلى استدراج إسرائيل لـ"حماس" في حروب صاروخية عدة من غزة، وعلى المداخلات الصاروخية التي أضرت بالهبة الشعبية للدفاع عن حي الشيخ جراح في القدس (2021)، وأجهضتها، والتي شارك فيها فلسطينيو 48 بكل قواهم، في حين اليوم لا يستطيع أحد في الضفة أو في 48 مساندة غزة، علما أن دعاة تأجيل النقد، اليوم، لم يصدر عنهم أي نقد للقوى التي فرضت خياراتها في تلك الأحداث.

المعضلة عند الفلسطينيين، سيما المثقفين، وعدا عن غياب الإطارات الجامعة، تكمن في نأي بعضهم عن العمل السياسي، المباشر وغير المباشر، مثلما تكمن عند بعض آخر منهم في التكيف مع توجهات الفصائل، التي لم تعد تقول شيئا ذي اعتبار منذ زمن بعيد. أيضا، هي تكمن عند آخرين في ركوب الموجة الشعبية، سيما في واقع يسبغ نوعا من القداسة على الكفاح المسلح، بغض النظر عن إدارته وكلفته وجدواه من النواحي السياسية، وبغض النظر عن الظروف المحيطة. وطبعا، بالإضافة لكل تلك الاتجاهات ثمة من يكيف توجهاته تبعا لسياسة هذا النظام أو ذاك، بحكم حال اللجوء والشتات والارتهان في هذا البلد أو ذاك، وفي كل ذلك يبدو المثقف الفلسطيني في أرجوحة أو دوامة، اضطرارية أو طوعية، يفاقم منها ترهل الحركة الوطنية الفلسطينية وأفولها بهذا الشكل التراجيدي المهول.
على ذلك يستحق الشعب الفلسطيني من مثقفيه قول الحقيقة في وقتها، بأمانة وشجاعة سياسية وأخلاقية، مهما كانت أثمانها، فالحقيقة والعدالة، بحسب إدوارد سعيد، صنوان متلازمان للمثقف، الذي من أهم سماته نقد أية سلطة والاستقلال عنها.
مجددا، هذا الكلام ينطلق من عدالة الحق الفلسطيني، ومشروعية كل أشكال المقاومة، بما فيها الكفاح المسلح، مع التمييز بينها وبين الحرب جيشا لحيش، وصاروخا لصاروخ، وضرورة تناسب أي شكل كفاحي، ولو نسبيا، مع ظروف الشعب، والمعطيات العربية والدولية. 

 

Loading...