ربما أن الصمت الذي يلف العالم العربي على وقع الغبار الصاعد من غزة، يستدعي نقاشاً أكثر عمقاً من سطحيات غارق بها العالم العربي وممارسته للسياسة، صحيح أن هناك كراهية لحركة حماس وسط النظام الرسمي العربي، حيث خطابها غير المتواضع في مهاجمتهم وتحريض شعوبهم، لكن الذي يُذبح شعب غزة وأطفالها ونسائها وردة الفعل العربية لا تتناسب مطلقاً مع حجم ما يحدث هناك، ورغم معرفة الجميع بأن الإمكانيات السياسية العربية قد توفرت لها فرصة مؤثرة بعد الحرب الروسية الأوكرانية.
السؤال عن طبيعة نظام الحكم وأولوياته، وإذا لم يستطع وقف الحرب على الأقل ليس هناك أي مسوغ قانوني أو أخلاقي لاستمرار المجاعة، وهذه تصلح لمحاكمة لحظة تاريخية أو فهم سيكولوجيا السياسة في العالم العربي، وتلك تشمل نظام الحكم والشعوب باعتبارها ثقافة ينتجها واقعٌ اجتماعي تنطبق على الجميع لكنها تصبح أكثر وضوحاً لدى ممارسي السلطة.
لم يغادر العقل العربي ثقافة القبيلة، فالنظم السياسية هي وليدة نصف القرن الأخير ولكنها تبدو نتاج وعي البداوة وزمنها، رغم أن المظاهر الخارجية لا تعكس ذلك لكن حقيقة السلوك السياسي هو الابن الشرعي للصحراء بقسوتها وبصغائرها حيث بدا أن كل ما تم تركيبه من طبقات سياسية أشبه بمشيخة العشيرة وما تستدعيه من ثقافة يومية.
تحررت الدول العربية من الاستعمار في خمسينات وستينات القرن الماضي وتسيدت طبقة سياسية بغض النظر عن تسميتها إمارة وأمير، مملكة وملك، جمهورية ورئيس، لكن السلوك العام بدا واحداً، بأن هناك شيخ يجلس في خيمة بتسميتها الحديثة "قص" محاطٌ بمجموعة من المريدين الموالين يمسك بكل الصلاحيات وحده من يدير البلاد والعباد لا شريك له.
ولأن عقل البدوي هو عقل تربصي، كان كل هَمّ الشيخ ألا تفلت المشيخة من يده، والتي تتربص بها قوى مجتمعية أخرى بنفس العقلية وكيفية الحفاظ على تلك المشيخة له وللأبناء من بعده ليشكل أجهزة أمن وعسكر وظيفتها الأولى الحفاظ على المشيخة، تتلصص على الناس وتلاحق المنافسين الذين يعملون على عزل الشيخ ومع الزمن والثقافة تحولت تلك إلى أولوية الأوطان وتم تطبيع المؤسسة الحكومية وأذرعها لتكون تلك مهمتها الوحيدة.
هنا الأزمة عندما تنقلب الأولويات لا يعود المجرمين وتجار المخدرات والمهربين الذين يهددون المجتمع والأوطان العدو الأول الذين تتساهل الدول معهم قياساً بالسجين المعارض الذي يختفي في السجون أو تتم تصفيته فالمشيخة أهم من الوطن وحين يقال للشيخ عن زلزال أو فقر أو أزمة اقتصادية، لا يشكل ذلك أزمة كبيرة وهنا عندما يتم سحق أو تجويع شعب شقيق ومأساة إنسانية أيضاً تلك ليست أولوية، أو مدعاة للاهتمام، وهذا ينطبق على الفلسطينيين حديثي العهد بالسياسة والحكم فقد مارسوه بشكله البدائي والأكثر تشوهاً.
قبل عامين في المغرب سقط طفل في بئر وتحولت المأساة إلى رأي عام يتابعها العالم العربي بالبث المباشر ليكتشف أن الدولة ليس لديها معدات دفاع مدني للإنقاذ، وهي ليست مؤهلة. وللمصادفة قبلها بأسابيع كانت الدولة تشتري من اسرائيل أعلى برنامج تجسسي "برنامج بيجاسوس" لمراقبة المعارضين، تلك وحدها كانت تشرح الحالة وهنا ماذا يعني أن يقتل عشرات الآلاف من الأطفال في غزة بلا مبالاة؟ تلك هي الحكاية!