تقف "فتح" التي أطلقت الحركة الوطنية الفلسطينية، وبادرت إلى الكفاح المسلح (1/1/1965)، في مواجهة لحظة تاريخية مصيرية حاسمة، وإزاء لحظة الحقيقة، في شأن مكانتها وتجربتها وتاريخها، بعد 59 سنة على انطلاقها، وهو عمر طويل، ينطوي على تجربة ثرية وصعبة، مليئة بالتضحيات والبطولات، والنجاحات والإخفاقات، والإنجازات والتراجعات.
ولعل أهم ما ينبغي إدراكه، في هذه المناسبة، أن تراجع تلك الحركة وأفولها لم يأتيا فقط من المحاولات الانشقاقية التي تعرّضت لها في تاريخها الطويل، على خطورتها، ولا من طول أمد المسيرة الباهظة التي شقتها من الأردن إلى لبنان إلى الأرض المحتلة، ولا من التحديات الخارجية التي واجهتها، من إسرائيل، أو من بعض الأنظمة، بقدر ما جاء من جهتين:
الأولى، تتمثل بضعف البعد المؤسّسي لتلك الحركة، وتالياً افتقادها الحراكات الداخلية، والعلاقات الديموقراطية، ما نجم عنه عدم تجديدها شبابها، وغياب تقاليد المساءلة والمحاسبة فيها، ونبذها أي مراجعة نقدية ومسؤولة لتجربتها، ولخياراتها السياسية والكفاحية، في قيادة المنظمة، وفي قيادة السلطة، في الكفاح المسلح أو في التسوية، في الانتفاضة أو المفاوضة؛ على رغم فشل أو إخفاق هذا الخيار أو ذاك.
الثانية، تتبع الأولى، إذ إن ترهل أوضاع "فتح" وتآكل مكانتها وتقادم أفكارها وطرق عملها، فتحت المجال واسعاً أمام صعود حركة أخرى تنافسها أو تنازعها على المكانة في القيادة والسلطة، وهي حركة "حماس" التي انطلقت مع بداية الانتفاضة الأولى (1987)، والتي بدأت من حيث بدأت "فتح"، بتجديدها فكرة الكفاح المسلح، لا سيما وفق نمط العمليات التفجيرية، والحرب الصاروخية، والتي باتت حركة شابة بالقياس للشيخوخة الواضحة على قيادة "فتح" وبناها التنظيمية المستهلكة.
ويمكن التأريخ لبداية التآكل في مكانة "فتح"، بالهزّة التي نجمت عن إخراجها من الأردن (1970)، وحرمانها العمل وسط أكبر تجمع للاجئين الفلسطينيين، والتي تم تجاوزها بسبب صعود مكانتها في لبنان. وتمثلت الهزّة الثانية في تحول خطاب "فتح" من هدف التحرير، وهدف "الدولة الواحدة الديموقراطية العلمانية" إلى البرنامج المرحلي (1974)، المتمثل بإقامة دولة فلسطينية في الضفة والقطاع المحتلين، والذي بات بمثابة الحدث المؤسس للانشقاق السياسي، أو لغياب الإجماعات الوطنية داخلها وفي عموم الساحة الفلسطينية. وكانت قيادة هذه الحركة قد اتخذت هذا الخيار منفردة، من دون سابق نقاش في الإطارات الحركية، ومن دون إقراره في مؤتمر عام. وقد استمرت هذه الحركة رغم الهزات الحاصلة بسبب براغماتية قيادتها وطابعها الذي يقبل التعددية والتنوع وبزخم الكفاح المسلح والتحديات التي واجهتها، وتحولها إلى ثقل سياسي كبير في لبنان.
الهزة الثالثة التي شهدتها تلك الحركة، نجمت عن إخراجها من لبنان إثر الاجتياح الإسرائيلي (1982)، ما أدى إلى انهيار ظاهرة الكفاح المسلح من الخارج، ما أدى بدوره إلى هزة أخرى (رابعة) تمثلت بالانشقاق الأبرز في تلك الحركة، والعمل الفلسطيني (1983). وفي حينه حظي الانشقاق بدعم نظامي الأسد في سوريا، الذي مكّن دمشق من التحكم بالوضع الفلسطيني في سوريا ولبنان، والقذافي في ليبيا الذي أمّن التغطية المالية لها. لكن تلك الظاهرة لم تنجح، ولم تثبت ذاتها في مواجهة "فتح" الأم، لأسباب متعددة ذاتية وموضوعية.
الهزة الخامسة أتت بعد الانتفاضة الشعبية الأولى (1987 - 1993)، إذ كانت بمثابة طريق جديدة لجهة الإطارات التي حملت هذه التجربة، والأشكال النضالية، التي اعتمدتها في مواجهة إسرائيل، إذ إنها اختلفت عن التجربة الفصائلية التي انبنت على الكفاح المسلح. وكما لاحظنا وقتها فإن قيادة "فتح"، وهي ذاتها قيادة المنظمة، راودتها المخاوف من إمكان تشكّل مركز قيادي بديل أو موازٍ، الأمر الذي لم يحصل بسبب التحولات الدولية والإقليمية في مطلع التسعينات، والتي سهلت عقد مؤتمر مدريد للسلام (1991)، إذ سرعان ما التفت القيادة الفلسطينية على تجاوزه في مؤتمر مدريد، بالتوجه نحو فتح قناة سرية ثنائية مع إسرائيل نجم عنها عقد اتفاق أوسلو بين قيادة منظمة التحرير وإسرائيل (1993)، مع كل ما تضمنه من إجحافات بحق الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، وهو أمر أدى إلى تحول "فتح" من كونها حركة تحرر وطني إلى سلطة على شعبها، علماً أنها سلطة تحت سلطة الاحتلال.
أما الهزة السادسة فحدثت كتابع، أو كارتدادات للهزة الخامسة، إذ تعرضت "فتح"، بعد انتهاء الانتفاضة الثانية (2000 ـ 2004)، ورحيل زعيمها التاريخي ياسر عرفات، إلى هزيمة كبيرة في انتخابات المجلس التشريعي الثاني (2006) لمصلحة "حماس"، وصعودها إلى مكانة القيادة والسلطة، كبديل وكندّ لها، لا سيما بعد هيمنتها على قطاع غزة وحصول الانقسام الفلسطيني (2007)، بعدما كانت "فتح" قد اعتادت على تفردها في قيادة الشعب الفلسطيني وتقرير خياراته المصيرية. والمشكلة أن الأمور تفاقمت عام 2007 نتيجة انقسام النظام الفلسطيني، وهيمنة "حماس" على غزة. هكذا بدت هاتان الهزّتان، في عهد الرئيس محمود عباس الذي يفتقد المكانة السياسية والرمزية لسلفه ياسر عرفات، في زعامة "فتح" والشعب الفلسطيني، كإنذار يؤكد أن "فتح" دخلت طور الشيخوخة، وأن مكانتها إلى انحسار، عزز ذلك انهيار خيارها القائم على المفاوضات وإقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع، إذ تبين أن إسرائيل تتلاعب بها، وأن حلم دولة فلسطينية وفق اتفاق أوسلو مجرد وهم.
الآن، وفي حرب الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، تبدو "فتح" إزاء الهزة الأكبر في تاريخها، سواء لجهة انسداد خيارها السياسي، في شأن حل الدولتين، وإزاء احتلال "حماس" مكانة قوة المقاومة في مواجهة إسرائيل التي كانت لـ"فتح" سابقاً، ناهيك بعجزها عن المبادرة إلى أي دور لتعزيز شرعيتها، أو تأكيد مكانتها الكفاحية؛ وهذا هو معنى الكلام عن أن ما بعد حرب غزة ليس كما قبلها، هذا ينطبق على "فتح" و"حماس" ومنظمة التحرير والسلطة.
ثمة ملاحظتان هنا: الأولى، أنه قد يمكن حل مشكلة القيادة في "فتح" بتحرير مروان البرغوثي من الأسر، كونه يحظى بإجماع مناسب داخلها، كما بشعبية عند الفلسطينيين، أكثر من غيره، علماً أن تلك الحركة، على الأرجح، ليست بحاجة إلى زعيم بقدر ما هي بحاجة إلى مؤسسة قيادية تستطيع استنهاضها، وتجديد شبابها، وضمن ذلك تجديد خطاباتها وبناها وخياراتها السياسية كما نمط تفكيرها وطرق عملها.
الثانية، أن الشعب الفلسطيني بحاجة ماسة إلى حركة وطنية، غير أيديولوجية، متنوعة وتعددية، كالتي كانتها "فتح"، والأسهل والأقرب ربما إذا استطاعت تلك الحركة استنهاض ذاتها، أما إذا تعذر ذلك فربما كان الفلسطينيون في حاجة لحركة وطنية أخرى بغض النظر عن اسمها.