الخلاف الأميركي ـ الإسرائيلي بلا رهانات أو أوهام


ليست تلك هذه المرّة الأولى التي تظهر فيها خلافات، حامية أو باردة، بين إدارة أميركية (ديموقراطية أو جمهورية) وبين حكومة إسرائيلية، إذ حصل ذلك مراراً، لكن لم يصل ولا مرّة إلى حدّ تخلّي الولايات المتحدة عن إسرائيل، أو تخفيف الدعم لها، ما ينطبق على الخلاف الحالي بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ورئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو.
 
تفسير ذلك أنّ الخلاف ليس بين الدولتين، وإنما بين إدارتين، لكل واحدة منهما اجتهادها السياسي، وفقاً لرؤيتها لمصالحها وصورتها الخارجية وأولوياتها السياسية والأمنية، مع ملاحظة أخرى مفادها أنّ الخلاف الحاصل بين إدارة بايدن وحكومة نتنياهو لا يتعلق بأهداف الحرب الإسرائيلية ضدّ فلسطينيي غزة، وإنما هو على شكل تلك الحرب، وحدودها، وعلى اليوم الذي سيلي الحرب؛ بدليل استمرار تدفق السلاح والذخيرة لإسرائيل.
 
على ذلك، يفترض عدم التسرّع أو المبالغة في استنتاجات في غير محلها عن تلك الخلافات، بعد تمرير الولايات المتحدة قرار مجلس الأمن الدولي مؤخّراً، بشأن الوضع في غزة، وعدم مداعبة الأوهام أو المراهنة على هذا الخلاف، وإنما النظر إليه في سياقه، وفي حدوده، إذ من المبكّر جداً الحديث عن تصدّع في العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية.
 
على ذلك، ودون التخفيف من الخلاف الحاصل، وآثاره على المدى البعيد، ربما الأجدى النظر إلى العوامل التي تسهم في تعزيز اتساع الفجوة بين السياستين الأميركية والإسرائيلية، بما فيها التي دفعت الإدارة الأميركية لعدم استخدام حق النقض في مجلس الأمن، في الآتي:
 
أولاً: لا يوجد في قرار مجلس الأمن الدولي إدانة لإسرائيل، ولا أي مسّ بها، لا باعتبارها دولة احتلال، ولا لكونها تشن حرباً وحشية ضدّ الفلسطينيين، باتت تُعرف في الرأي العام العالمي كحرب إبادة جماعية. بالعكس، فقد تضمّن البيان شجب الطرفين (المقاومة وإسرائيل) كأنّهما طرفان متساويان، وشجب وحظر أخذ مدنيين كرهائن، من دون أي حديث عن الأسرى الفلسطينيين، الذين يصل عددهم ربما إلى أكثر من 20 ألفاً في السجون الإسرائيلية. كما إنّ القرار تحدث عن وقف نار موقت، في زمن محدّد بشهر رمضان، مع ملاحظة أنّ إسرائيل تتمتع، منذ قيامها، بتغطية سياسية من الولايات المتحدة برفضها كل القرارات الدولية، بما فيها قرارات مجلس الأمن، وأهمها القرار 242 (1967)، على سبيل المثال، بل إنّ الناطقين بلسان السياسة الأميركية، في البيت الأبيض وفي وزارة الخارجية، أكّدوا أنّ الولايات المتحدة لم تغيّر سياستها، وأنّ لا شيء يُلزم إسرائيل (جون كيربي مثلاً).
 
ثانياً: أتى امتناع الولايات المتحدة عن استخدام حق "الفيتو" في سياق تبرّمها من صلف نتنياهو، ورفضه الانصياع لنصائحها، بخصوص التخفّف من استهداف المدنيين، وتجنّب اقتحام رفح، المكتظة بالبشر النازحين من المناطق المنكوبة في مدن غزة، في الشمال والوسط، وأيضاً، لحضّه على تليين شروطه المتعلقة بالهدنة الموقتة، بهدف تحرير الرهائن الإسرائيليين عند حركة "حماس". وقد شهدنا من ذلك مثلاً تصريح نائبة الرئيس الأميركي كمالا هاريس بأنّ إسرائيل ستتحمّل العواقب إذا دخلت رفح، والتصريح الغاضب لرئيس الأغلبية الديموقراطية في مجلس الشيوخ الأميركي، تشاك شومر، بأنّ "تحالفاً يقوده نتنياهو لم يعد يلبّي حاجات إسرائيل بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر)"، والذي استدعى رداً من بعض قادة ليكود بأنّ "إسرائيل ليست جمهورية موز"، علماً انّ ثلث أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي من الحزب الديموقراطي رفعوا عريضة يطالبون فيها بتقييد تسليح لإسرائيل، ومراقبة كيفية استخدام سلاحها.
 
ثالثاً: يتصاعد التبرّم في الإدارة الأميركية وفي قيادات الحزب الديموقراطي من السياسات الإسرائيلية نتيجة ضغوط الرأي العام العالمي، وضمنه في الولايات المتحدة، التي ترى في إسرائيل دولة تمارس حرب إبادة علنية ضدّ الفلسطينيين، مع قطع الماء والكهرباء والغذاء والدواء والوقود عنهم، ومع تدميرها عمرانهم، الأمر الذي بات يثقل على صانع القرار الأميركي، وفي الدول الأوروبية الحليفة، ويقوّض صدقية الرسالة التي تدّعيها تلك الدول، كحارسة لقيم الديموقراطية والليبرالية في العالم، لا سيما وأنّ قطاعات نافذة من يهود العالم في أوروبا وفي أميركا اصطفت إلى جانب الحراكات الشعبية الرافضة للحرب، إضافة إلى أنّ الولايات المتحدة باتت تجد نفسها وحيدة كداعمة لإسرائيل، إذ أنّ بريطانيا وألمانيا وإيطاليا امتنعت عن التصويت لصالح قرار وقف الحرب في الجمعية العامة للأمم المتحدة، في حين أنّ فرنسا واليابان وكندا وأستراليا وكوريا الجنوبية صوّتت لصالح القرار، أي أنّ الولايات المتحدة (ومعها النمسا وتشيكيا من الدول الأوروبية) فقط رفضت القرار (كانون الأول- ديسمبر 2023).
 
رابعاً: شعور بايدن أنّه بحاجة لأصوات العرب والمسلمين، والأصوات الحليفة لهم، في المجتمع الأميركي (وضمنهم يهود وهنود وإسبان ومن أصول إفريقية)، مع تبين أنّ قطاعاً واسعاً من المنتسبين للحزب الديموقراطي، باتوا يعبّرون عن أنفسهم في كتلة، تصرّح بأنّها لن تلتزم بالتصويت لبايدن، علماً أنّ الفارق بينه وبين منافسه دونالد ترامب ضئيل، بمعنى أنّ الفوز يتوقف على كتلة صغيرة قد تحسم الأمر لصالح أي من الطرفين، وهو ما يدركه بايدن، ويتحسب له، بدليل تأييده لتصريح تشاك شومر المذكور، وربما أنّ حضّ الولايات المتحدة نفسها على تقديم مساعدات لفلسطينيي غزة، واصرارها على هدنة ولو موقتة، وكلامها عن أفق لدولة فلسطينية مستقبلاً، وانتقادها لحكومة نتنياهو، تأتي في إطار توجيه رسائل تهدئة لهذا التيار الرافض للحرب الإسرائيلية، داخل الولايات المتحدة، وخارجها.
 
خامساً: ثمة مقدّمات لهذا التوتر بين الإدارتين، الأميركية والإسرائيلية، قبل الحرب، وهي تكمن في الجفاء بين الرئيس الأميركي ورئيس الحكومة الإسرائيلية، منذ كان بايدن نائباً للرئيس باراك أوباما، كما تكمن في رفض إدارة بايدن لمحاولات بنيامين نتنياهو تغيير النظام السياسي في إسرائيل، عبر مصادرة السلطة القضائية، وتغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية ودينية، على حساب طابعها كدولة علمانية وليبرالية وديموقراطية (تبعاً لمواطنيها من اليهود)، أي أنّ إدارة بايدن تصطف لصالح المعارضة الإسرائيلية، في هذه المرحلة، التي تحاول احباط محاولة نتنياهو، والتيارات الدينية المتطرّفة المتحالف معها، وإسقاط حكومته.
 
ويلخّص بن – درور يميني الوضع بقوله: "نتنياهو... كل خطواته تعمّق الضرر لإسرائيل. كيف يعتزم تعزيز الدفاع عن إسرائيل، وقدرتها على القتال، دون مساعدة أميركية. فمن يخادع؟... الائتلاف مع بن غفير وسموتريتش... سيئ لإسرائيل... رجاءً، ارحل. ("يديعوت أحرونوت"، 26/3/2024). ويقول يوسي فيرتر: "نتنياهو خطير على إسرائيل... يلعب بالنار على حسابنا... ما دام في الحكم ومحاطاً بعصابة المستوطنين المتطرّفين الذين يسيئون لسمعة الدولة، ومحاطاً بالحريديم الذين يفرضون عليه المضي بقانون يشجعهم على التهرّب من الخدمة العسكرية ويضرّ الاقتصاد بشكل كبير". ("هآرتس"، 26/3/2024).
 
وكان شمعون شيفر تحدث عن الأمر نفسه، لكن في مرحلة قبل الحرب، بالعبارات الآتية: "الرسالة... من إدارة بايدن إلى نتنياهو، لا لبس فيها: الحكومة التي أقمتها مع... بن غفير وسموتريتش، والخطف الذي تسمح به لتغيير طريقة النظام في إسرائيل ليست مقبولة... ما يجري الآن بين نتنياهو وبايدن لم يحصل أبداً في منظومة العلاقات المتبادلة: الخلاف ليس على مستقبل "المناطق"، بل على الاعتراف في واشنطن بأنّ نتنياهو يسمح لشركائه بتحطيم كل الأدوات التي يتشكّل منها المجتمع وتجعله كياناً سليماً... بكلمات أخرى، على الإسرائيليين أن يقرّروا في أي دولة يريدون أن يعيشوا". ("يديعوت"، 14/7/2023).

 

Loading...