منذ انهيار الهدنة اليتيمة في نوفمبر/ تشرين الثاني من العام الماضي، وبعد فشل المحاولات المتكررة، لإعادة إنتاجها، دأبت الإدارة الأميركية على الإعلان الفوري، عن بدء مسار تفاوضي جديد، بين إسرائيل وحركة حماس. وبالحاحٍ يشي أن عملية المفاوضات صارت ضرورة بذاتها، لمواصلة الإمساك بملف الحرب من أجل تحقيق أهدافها المباشرة والبعيدة. ومنها هدف القضاء على سلطة حماس في قطاع غزة.
تحت هذا السقف اختلفت حكومة إسرائيل في أولوياتها وأسلوب عملها، عن إدارة الرئيس بايدن المرتبطة باحتياجات شاملة داخل أمريكا وخارجها وفي القلب منها مستقبل النظام الشامل في الشرق الأوسط، الذي شهد أول مؤتمر دولي للسلام في مدريد عام 1991، بعد انهيار المعسكر الاشتراكي.
وقتذاك كان الرئيس جورج بوش الاب، يستنكر القول الشائع بأن أمريكا أصبحت روما العصر سيدة الأرض. فقد جاء في خطاب له ما يفيد، أن روما كانت سيدة الأرض، لكن اليوم أميركا سيدة الأرض والسماء معاً.
وفي أغلب الظن ترجم الرئيس عرفات تلك الخلاصة، بأن زمن الأحادية القطبيّة، لن يسمح لأي قوة دولية بالتجاوز على قرار واشنطن في أي ملف من العيار الثقيل. وهذا ما دّلَ عليه سلوكه السياسي اللاحق. من خلال المفاضلة بين الاستعصاءات الظاهرة في تجربة مؤتمر مدريد الدولي، والاحتمالات الممكنة عبر القنوات التفاوضية السرّية التي إنحاز لها وأنتجت "اتفاق أوسلو". في لحظة أعرب فيها الرئيس عرفات صراحة عن مخاوفه بأن يشابه مصيرنا مصير الهنود الحمر في بلادهم.
والكلام اليوم عن مستقبل فلسطين السياسي في أراضي السلطة الفلسطينية حسب المصطلح الدولي تجري في ظل سياسة تعميق أبعاد الأحادية القطبية. في الصراع مع الصين وروسيا لقطع الطريق على من يسعى لنظام دولي متعدد الأقطاب.
إن الشجاعة التي توفرت لدى الرئيس عرفات وعدد قليل من رفاقه لم تتوفر لدى الكثير من النخب السياسية الفلسطينية لخوض غمار هذا الاستحقاق التاريخي، بل إختبأت أغلبية النخب ومازالت تختبئ خلف الشعارات والأيديولوجيات التي لم تعد تمتلك أي قدرة على حل المعضلات المعقدة كالتي نواجه.
إن الإسرائيلي يعرف ما يريد ويفصح عنه ويمارسه الآن قتل وإبادة وتهجير وتهويد. لكننا نعرف ما يجب رفضه، ونرتبك في تحديد ما نريد وما نقبل به وكأن الإبادة لم تحصل وليست جارية يومياً!!؟
عملية طوفان الأقصى بين العنف الفلسطيني وحرب الإبادة الإسرائيلية:
كشفت العملية لحظتين على درجة كبيرة من التباين والدلالات يمكن تلخيصها على النحو التالي:
اللحظة الأولى: العنف الفلسطيني نجح في تحطيم هيبة الدولة الإسرائيلية وليس جيشها فقط. لكنه أنتج رد فعل أميركي – غربي، سمَتُهُ الأساسية الدعم المطلق وتبرير كل ما تفعله إسرائيل للدفاع عن وجودها. ولم يكن وجودها مهدداً بالأصل، كما أن التعاطف الدولي ترافق مع تحريك الأساطيل والدعوة لإنشاء حلف ضد حماس – داعش. بحسب تصريح الرئيس الفرنسي.
اللحظة الثانية: العنف الإسرائيلي استثمر ما تقدم من مواقف وسار نحو حرب إبادة وتهجير وتطهير عرقي مع تواطؤ الدول الداعمة حتى وصل الأمر إلى محكمة العدل الدولية.
وانفجر الغضب الشعبي في الغرب ضد الحكومات التي استمرت بالتواطؤ مع حرب الإبادة الإسرائيلية.
بين اللحظتين جرت مراجعات مصلحية أدت إلى التحول من الدعم المطلق لإسرائيل إلى الدعم المشروط تفادياً لفقدان السيطرة والتحكم بمسار الحرب لخطورة الامر على مجمل الوضع الدولي والإقليمي.
هذا ما جعل حل الدولتين مخرجاً للأمريكي ومأزقاً لحكومة نتنياهو.
وبالعودة إلى البحث عن الحل السياسي على قاعدة خيار الدولتين، وهو الان على صلة قوية بالمصلحة الدولية والإقليمية والعربية لمنع إنفجار الصراع على ضفاف المتوسط ومياهه ومخزوناته. ما يجعل الاستحقاق السياسي – الأمني لليوم التالي لوقف الحرب استحقاقاً وتحدياً أكثر خطورة مما كان عليه الأمر قبل ثلاثة عقود، فهل نستطيع العبور إلى دولة تقنع الشعب الفلسطيني وتلبي مصالحه الحيوية؟
لمقاربة هذا الاستحقاق لا بد من التوقف أمام قراءة قيادة حماس التي تنسب التحولات الدولية والإقليمية لسياساتها وللبرهنة على فاعلية العنف الفلسطيني في إنتاج الحالة السياسية الراهنة. بينما الواقع كشف في اللحظة الأولى لعملية طوفان الأقصى، طبيعة رد الفعل الدولي السياسي والعسكري والأمني. بينما التحولات التي حصلت في اللحظة الثانية كانت بفعل إنهيار المنظومة القيميّة الغربية جراء حرب الإبادة الإسرائيلية علينا.
وأن عودة الغرب لحل الدولتين، ليست مبنية على القناعة بقدر ما هي مبينة على الضرورة لإنتاج حل سياسي، حيث لا بدائل ممكنة. ولأن حل الدولتين هو الخيار البرنامجي الوطني للشرعية الفلسطينية، فلا خيار لواشنطن إلا بالعودة إلى رام الله لإنتاج حل سياسي ممكن، وما لم ينتهي العنف عند الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني لا يمكن أن نعبر هذا الاستحقاق، من هنا تبدأ العجلة بالدوران، فهل نستطيع نبذ العنف؟ لا شك أننا نستطيع إذا طُرح الأمر للشعب وتم الاستفتاء عليه من جهات محايدة ونزيهة. ليقول كلمته في نبذ العنف عند الطرفين الإسرائيلي والفلسطيني. من أجل انتاج تسوية تاريخية حقيقية.
إن السلام القائم على فكرة التسوية التاريخية يتطلب اعتراف بالحقيقة الواقعية أولاً والتزام المصلحة ثانياً وتوفر القناعة ثالثاً.
والحقيقة الواقعية المستفادة خلال الصراع على مدى قرن من الزمن، هي عدم إمكانية إلغاء أي طرف للطرف الآخر سواء بالقوة المادية أو بقوة الحق. ولذا فإن المصلحة تقتضي الاعتراف بالحقيقة الواقعية هذه، وتوفر هذين الشرطين يتطلب توفر القناعة بنقل فكرة التسوية من فضاء المناورة أو الرضوخ للأمر الواقع إلى القناعة بضرورة إنتاج مشروع سلام حقيقي وليس مفاوضات "سلام" تستند إلى ميزان القوة كما شهدنا في العقود الثلاثة الماضية.
ما الذي نريده، وكيف يمكن إنجاز ما نصبو إليه؟
بداية لا بد من التخلي عن نظرية اليأس التي تعبر عن نفسها بأشكال مختلفة في أوساطنا (لا طريق إلا السلاح) (كل شيء أو لا شيء) (لا إمكانية لصناعة السلام) (لا جدوى من المفاوضات) (الموت أو النصر).
إن نقد هذه النظرية ليس مهمة مقالة سياسية متفائلة، لأن التفاؤل في السياسة ليس إنعكاساً لوضع نفسي، بقدر ما هو تحليل ملموس لعناصر القوى الظاهرة والكامنة لدى الشعب، وقراءة دقيقة للمعطى السياسي، قراءة تسقط الأوهام وتتعامل مع الوقائع بمسؤولية عالية.
إنه في مراكمة إنجازات جزئية لإنتاج حالة جديدة مؤثرة في المعادلة السياسية الدولية والإقليمية ومؤثرة في المجتمع الإسرائيلي نفسه.
إنه في العمل الجاد والدؤوب لإنجاز البنى التحتية والهياكل المجتمعية والسياسية للدولة الفلسطينية على أنها ستقوم غداً.
إنه في صياغة الرسالة الفلسطينية الحضارية إلى العالم، الرسالة التي تعبر عن ثقافة الحياة والتنمية، ثقافة مجتمع يمتلك مقومات صعوده، وصموده أمام الأزمات، إنه في خلق الوقائع التي تجعل الحق الفلسطيني ممكناً وفي أقرب وقت، ثقافة مجتمع يقدس حياة الانسان وحرياته وفرادته باعتبارها المدخل لحياة الجماعة والشعب وحقوقه السياسية ومكانته في المجتمع الدولي. فهل نستطيع العبور الاستراتيجي هذا، أم نستمر بالمشاحنة الفصائلية حول تكليف الحكومة من موقع رفض البرنامج الوطني ورفض التعامل مع الشرعية الدولية والشرعية العربية والاستمرار في تحطيم الشرعية الفلسطينية.
اعتقد مرة أخرى عندما نحتكم لخيارات الناس ونستفتي رأيها بحرية نستطيع العبور بثقة نحو مستقبل أفضل.