بقلم: د. أحمد جميل عزم
من الغريب، ولكن ليس المفاجئ، أنّ الشّعب الفلسطيني يتعرض لحملة إبادة وتطهير عرقيين مكثّفتين ولا يَجتَمِع المَجلِس الوَطَني الفَلسطيني. ومن الغريب والمفاجئ معاً أنّ من يفاوض باسم الفلسطينيين في قضايا أساسية مثل وقف الحرب في قطاع غزة هو غير منظمة التحرير الفلسطينية وهذا لا يستفز المنظمة لتعبئة صفوفها ناهيك عن صفوف الشعب الفلسطيني.
في بداية الحرب الراهنة في قطاع غزة، بعد السابع من أكتوبر، كانت إحدى الأطروحات التي تم نقاشها شعبياً وفي الإعلام تكرار سيناريو الوحدة الفلسطينية الجزئية، التي برزت عام 2020، ردّا على خطة "الصفقة النهائية" للرئيس الأميركي دونالد ترامب، عندما التقى أمين سر اللجنة المركزية، لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، جبريل الرجوب، مع نائب رئيس المكتب السياسي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، آنذاك، الشهيد (الآن) صالح العاروري، واتفقا على توحيد الصفوف، وبدأت مسيرة لانتخابات عامّة، أوقفت قبل حصولها.
بعد 7 أكتوبر، كان متوقعاً أنّ لحظة استعادة دور منظمة التحرير الفلسطينية، حانت، أي أن تتفاوض قيادة المنظمة نيابة عن الفلسطينيين لوقف الحرب ووقف "المؤامرة الأميركية الإسرائيلية"، وبحيث "تضطر" قيادتا المنظمة، وحماس للعمل معاً. فالمنظمة مقبولة دولياً، وحماس هي القوة على الأرض في غزة. كان يمكن أن تتفاوض حماس عبر هذه القيادة، وأن تقود المنظمة حركة الشعب دبلوماسيا بالتنسيق مع "حماس"، لحل مجموعة أزمات، منها القدس، وحصار غزة، وحصار السلطة، وجمود العملية السياسية.. إلخ.
لكن القيادة الرسمية للشعب الفلسطيني ترفض التعامل مع حركة "حماس" لمبررات منها، "عدم مشاورة" حماس للقيادة في قراراتها، أو لأنّ "حماس" غير مقبولة دولياً، أو لأنّ "حماس" يجب أن تبادر للاتصال بالرئيس الفلسطيني، أو سوى ذلك من مبررات تتردد. لكن في الوقت ذاته، منظمة التحرير لم تعد تملك على الأرض قرار الحرب والسّلم، خصوصاً في غزة، وهذه نقطة ضعف تهدد المنظمة، ودورها، وتقّوض العمل الفلسطيني ككل.
إنّ منظمة التحرير الفلسطينية هي الإطار الوطني لتعبئة طاقة الشعب الفلسطيني، وتحقيق وحدته، وحركة "فتح" وجدت تجسيداً لفكرة أنّ "التناقض الرئيسي مع الاحتلال والتناقضات بين الفلسطينيين ومع العرب هي تناقضات ثانوية".
لا زال هناك حضور للمنظمة وفتح يجسّدان هذه القيم، فمثلاً أداء بعض الدبلوماسية الفلسطينية الرسميّة، لا زال يعبّر عن جوهر وروح المنظمة، مثل أداء بعثة فلسطين في الأمم المتحدة، بقيادة رياض منصور وفريقه الشاب، وأداء السفير حسام زملط في بريطانيا على صعيد الإعلام الدّولي، وهناك الكثير من الجنود المجهولين في دوائر العمل الدبلوماسي، ينقصهم الإمكانيات وينقصهم تنظيم شعبي مؤيد فاعل في الميدان.
على الأرض لا زال هناك روح نضالية عامّة لكل الشعب الفلسطيني، ومخيم جنين مثالاً، ومن أيقوناته الأسير عضوا المجلس الثوري لحركة "فتح" زكريا الزبيدي، والدكتور جمال حويل، والقائد الأسير الدكتور مروان البرغوثي، لكن الفجوة بين "الرسمي" و "الشعبي" تتوسع. والفجوة بين من يملك قرار وقدرات المواجهة والتصعيد ومن يملك القرار الرسمي القانوني تتزايد، وهذا وضع معقد.
لنفترض جدلاً، أنّ اللقاء بين الفصيلين "فتح" و"حماس" غير ممكن، فإنّ تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية، وتفعيل التعبئة الوطنية الشعبية في سياق المنظمة ليس مستحيلاً.
في عام 1972، قرّرَت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، تقديم انعقاد دورة المجلس الوطني (العاشرة)، من شهر تموز/ يوليو إلى نيسان/ إبريل، ووقتها كان الجدل يتصاعد هل تُمثّل الفَصائِل المسلّحة الفلسطينيين في الأرض المحتلة فعلاً، فتركيبة المجلس الوطني بعد عام 1968 أصبحت فصائلية بشكل كبير، وبدأ هذا يثير تساؤلات، خصوصاً مع مخططات القيادة البديلة التي كان ترعاها قوى دولية ومحلّية عبر مشاريع أحدها الانتخابات البلدية.
كان الحل عقد ما سمي "المؤتمر الشعبي" بالتوازي مع المجلس، ليضم ممثلين عن أماكن التجمع المختلفة للفلسطينيين، وركّز هذا المؤتمر، وهذه الدورة على شريحتين، هما أهالي الأرض المحتلة، والاتحادات المهنية والشعبية والنقابية التي بدأت تأخذ دورا كبيرا حينها.
حينها (1972) شارك 700 شخص في المؤتمر الشعبي، منهم 550 من غير أعضاء المجلس الوطني. وقد قرر المجلس الوطني المنعقد بعد المؤتمر الشعبي، توسعة العضوية مع تخصيص 50 بالمائة من الأعضاء الجدد للتنظيمات الشعبية.
إنّ انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في هذا الظرف أمر مصيري. على أن لا يكون مجلساً "احتفالياً" وشكلياً، أو لتمرير موقف سياسي معيّن، بل لإعادة النظر في عضوية المجلس، وإدخال القوى المؤثرة له، وفق نتائج نقاش وطني يسبقه، ويوحّد القرار الفلسطيني، فالمطلوب قرار وطني مستقل وموحد وملزم للجميع، بدءا من المفاوضات والعملية السياسية إلى المواجهة والنضال المسلّح.
لقد تبنى المجلس الوطني لعام 2018، قوى وحملات مقاطعة الاحتلال وسحب الاستثمارات (BDS)، والآن هناك حملات فلسطينية قوية فاعلة مثل اتحادات طلابية فاعلة، غير الاتحاد الذي توقفت انتخاباته في المنظمة منذ عام 1992، وتجمعات "طلاب من أجل العدالة" (SJP)، في جامعات العالم، وتجمعات "أبناء المخيمات" في جامعات عربية، وهناك حملات مثل "إحنا 14 مليون"، وهناك مجموعات كبيرة جديدة من الأكاديميين، ورجال الأعمال، والمتطوعين، الذين يعملون ليل نهار لأجل فلسطين. غالبية هؤلاء غير ممثلين في المجلس الوطني الفلسطيني.
يستحق الأمر مؤتمراً شعبيّاً، ويمكن تشكيل لجنة وطنيّة حقيقية، تتشكل بمبادرة من القيادة الفلسطينية، ومن أطر منظمة التحرير الحالية، وتكون اللجنة من قوى فاعلة في الشتات والوطن، يتم التوافق عليها، بعد مشاورات وطنية، لاسترداد دور منظمة التحرير. ويمكن لأعضاء في المجلس الوطني، وبموجب النظام الأساسي، للمجلس أن يقوموا بالمبادرة، وطلب عقد جلسة خاصة لذلك. لكن في حالة تركت مسألة تعبئة الطاقات الوطنية، خارج يد المنظمة، وتخلت قيادة المنظمة عن هذا الدور أو رفضته، فإنّ هذا يعني أنّه ليس فقط قرار التهدئة والتصعيد ميدانياً (جزئيّا على الأقل) قد خرجت من يدها، بل وايضاً مسألة الحشد والتعبئة والتوحيد، فالشعب الفلسطيني، وقضيته، لا يحتملان الفراغ.