بقلم: المحامي زياد أبو زياد
في يوم الذكرى الـ 48 ليوم الأرض والـ 76 للنكبة، ما زلنا نصارع من أجل الاحتفاظ بما تبقى لنا من الأرض ولمنع وقوع نكبة ثانية.
للشهر السادس على التوالي وإسرائيل تقوم بأبشع حرب إبادة في قطاع غزة، وبدعم من أمريكا وبعض الدول الأوروبية. وبينما تحاول ادارة الرئيس بايدن ذر الرماد في العيون وذرف دموع التماسيح للتعبير عن القلق من تردي ظروف الحالة الإنسانية واحتمالات وقوع مجاعة وكارثة إنسانية في القطاع، وتقوم باستعراض القاء مواد إغاثة من الجو وإقامة ميناء مؤقت لإدخال المساعدات للقطاع، تقوم في نفس الوقت بدعم استمرار الحرب وتزود إسرائيل بالذخائر والأسلحة، التي كان آخرها ما أعلن عنه قبل يومين من تزويد إسرائيل بألفي قنبلة ضخمة تحمل الواحدة منها طنا من المواد شديدة الانفجار.
ومع استمرار الحديث عن مفاوضات لصفقة تبادل أسرى بين حماس وإسرائيل، تحاول حكومة نتنياهو استخدام تلك المفاوضات كقنبلة دخان للتغطية على الاستمرار في حرب الدمار الشامل التي تشنها ضد القطاع، في محاولة للقضاء على أبسط مقومات الحياة وإشاعة الفوضى والجوع ونقص الخدمات الأساسية، كما فعلت مؤخرا بقصف ما تبقى من مباني بلديات ومرافق تابعة للبلديات في مدن القطاع، لمنع وجود أي جسم يستطيع تقديم الخدمات للناس أو تنظيم دخول المساعدات للناس، بعد أن قامت قبل ذلك بقتل ضباط وأفراد الشرطة المدنية، الذين حاولوا ضبط توزيع المساعدات ومنع بعض العصابات من الاستيلاء على المساعدات عنوة واختطافها لبيعها في السوق السوداء.
سذاجة الحديث عن إعادة إعمار القطاع
وبينما تمضي إسرائيل في مخططها لمحو مقومات الحياة في القطاع من الوجود، تعلو بعض الأصوات لتتحدث ببساطة تبلغ حد السذاجة عن إعادة إعمار غزة، وعمن يتولى مسؤولية إدارة القطاع، بعد توقف القتال، وكأن ما يحدث الآن في القطاع هو قدر لا يُناقش، ولا أحد يتحدث عن تحميل إسرائيل المسؤولية الجزائية والمعنوية عن جرائم الإبادة الجماعية والخراب والدمار في القطاع، والعقوبات التي يجب أن تتخذ ضدها لارتكابها ذلك، ولا عن مسؤوليتها المادية عن إعادة تعمير القطاع والتعويض المادي للسكان عما لحق بهم من خسائر بشرية ومادية ومعنوية ومعاناة إنسانية وضياع فرص.
جرائم الحرب مستمرة في القطاع، والنظام السياسي العربي مُتمحوّر عند فترة تاريخية سابقة عاجز عن معايشة الحدث، وعاجز عن أن يكون على مستوى التحدي، ويمارس سياسة تقليدية محكومة بكليشيهات نمطية تتحدث عن كيف يمكن اقناع إسرائيل بقبول صيغة حل الدولتين، والضمانات التي يمكن تقديمها لإسرائيل "لتبديد مخاوفها الأمنية" وقبول الجنوح للسلام، ويقدم ضريبة كلامية للشعب الذي يُذبح في القطاع والضفة دون العمل على وقف تلك المذابح، بالرغم من أن هناك دول عربية معينة تستطيع، لو أرادت، وقف الحرب لما لديها من إمكانيات تتمثل في مصالح اقتصادية وسياسية يمكن توظيفها لتحقيق ذلك.
الحراك الجماهيري وحراك الأردن
أما الجماهير العربية فتحركها لنصرة أهلنا في غزة ما زال دون المستوى في العديد من الدول العربية، في حين أن حركة الاخوان المسلمين تحاول ركوب موجة حراك التعاطف التلقائي الذي يبديه الشعب الأردني الشقيق مع شعبنا في غزة وخروجه للشارع للتعبير عن ذلك، مما يمكن أن يؤدي الى تدخل حكومي ضد ذلك الحراك، للحيلولة دون أن يؤدي تدخل الاخوان الى انحرافه عن الهدف الذي قام من اجله. والملفت للنظر أن شعبنا في الأراضي المحتلة ما زال مأخوذاً بالصدمة، لم يخرج للشوارع بشكل عارم للتعبير عن تضامنه مع اخوته في قطاع غزة، فلم يظهر على الساحة الداخلية سوى بعض العمليات المسلحة وخاصة في شمال الضفة، والتي يخشى أن تستغل من قبل الاحتلال لتصعيد ممارساته القمعية ضد أبناء شعبنا على نطاق واسع، مع ملاحظة أن هناك عملية مقاطعة في الضفة الغربية للمنتجات الإسرائيلية على نطاق واسع، ما زال يتسع في كل يوم شأنه كشأن المقاطعة التي نشهدها خارج الأراضي المحتلة.
لقد شكل انقلاب حماس في حزيران 2007 بداية عملية الانتكاس على الساحة السياسية الفلسطينية الداخلية، إذ استُغل للهروب من الاستحقاقات القانونية، سواء من قبل القيادة السياسية في الضفة أو مثيلتها في القطاع، وأسفر عن تغييب الشرعية الانتخابية والتفرد في الحكم مما أفرز دكتاتورية الفرد في الضفة ودكتاتورية الفصيل في قطاع غزة. وقد أدى ذلك الى تلاشي الحدود الفاصلة بين السلطات الثلاث وتغييب مبدأ الفصل بين السلطات، وأصبحت كل من الضفة والقطاع تُحكم من قبل سلطة تنفيذية متنفذة استحوذت على صلاحيات السلطة التشريعية، وقامت بتهميش استقلالية السلطة القضائية.
الحكومة الفلسطينية الجديدة
لقد تم مؤخراً تشكيل حكومة جديدة بالضفة الغربية برئاسة الأخ د. محمد مصطفى، وأنيطت بها مهمة الإصلاح بأوسع مفاهيمه، ومهمة إعادة اعمار قطاع غزة من جهة أخرى. ومهما توفرت من إمكانيات وكفاءات وحسن نوايا حقيقية لدى مكونات هذه الحكومة، فإنه لا بد من القول بأنها تقف أمام مهام شبه مستحيلة، وعلى طريق وعر مليء بالأشواك وحقول الألغام "الصديقة" والمعادية على حد سواء.
ولا شك بأن من أهم ما يجب توفيره لهذه الحكومة، هو عدم تدخل الأطر التنظيمية، وأقصد حركة فتح بالذات، في عمل الحكومة، واعطائها مساحة واسعة للعمل. وحتى لو تحقق ذلك فإن هذه الحكومة ستظل تفتقر الى وجود رقابة ومساءلة برلمانية، الأمر الذي من الطبيعي أن يفتح الباب واسعاً أمام الفساد الإداري والمالي، ويجعل أي عملية اصلاح تقوم بها تفتقر للرقابة البرلمانية، مما يسهّل التشويش عليها أو عرقلة وصولها الى الهدف الذي تنشده. وعليه فإن اجراء انتخابات تشريعية يجب أن يكون على رأس أولويات هذه الحكومة التي يجب أن تتوفر لها فرصة التفكير خارج الصندوق، فيما يتعلق بكيفية اجراء الانتخابات في القدس وكذلك في قطاع غزة، الذي تحكمه ظروف ناتجة عن الحرب، تجعل إمكانية اجراء انتخابات فيه بالوسائل التقليدية غير ممكنة قبل خمس سنوات على الأقل. ومع أن إمكانية إعادة اعمار غزة ما زالت رهن كيفية انتهاء الحرب، وبالواقع الذي يمكن أن يولد في القطاع بعد انتهاء الحرب، إلا أننا اذا افترضنا أن الحرب ستنتهي مع بقاء أهل قطاع غزة فيه، فإن من الحتمي أن تكون مهمة اعمار غزة هي مهمة دولية تحتاج الى صندوق دولي بمليارات الدولارات، والى تجنيد الكفاءات ووضع خطط وبرامج وآليات تنفيذ في ظل شفافية مطلقة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن مهمة إعادة اعمار قطاع غزة بعد كل هذا الخراب غير الاعتيادي والدمار المجتمعي والمادي، هي أكبر من إمكانيات أية وزارة بل وأية حكومة، ولا بد من أن تكون هناك هيئة أو مجلسا لإعمار غزة، يتمتع بذمة مالية مستقلة، ولكنها تخضع لآلية مراقبة وشفافية على أعلى مستوى مهني، مع وجود دور للحكومة في مجلس إدارة تلك الهيئة.
دكتاتورية الفرد بالضفة والفصيل بالقطاع
واذا كانت دكتاتورية الفرد في الضفة أدت الى اتباع النهج البلشفي في الحكم، الذي يقوم على أساس أن الديمقراطية لا تصلح للحكم لأن النخبة الحاكمة أدرى بمصلحة الشعب من الشعب نفسه، فقد أدى هذا النهج الى تفكيك السلطات والمؤسسات وتغييب حكم القانون وخلق أجواء خصبة جداً للفساد، فإن دكتاتورية الفصيل الواحد في قطاع غزة قد أوصلته الى الوضع الكارثي الي يعيشه هذه الأيام، لأن المنطق يقول بأن قرار الذهاب للحرب لا يجوز أن يكون بيد شخص أو بضعة أشخاص، وإنما يجب أن يكون قرارا شعبيا وعلى أعلى مستوى، كما هو الحال في بعض الدول المتقدمة، حيث يحتاج قرار الذهاب الى الحرب الى موافقة البرلمان. وما نفتقر اليه سواء في الضفة او القطاع هو العودة الى ممارسة الديمقراطية من خلال الالتزام بمبدأ الفصل بين السلطات، وبالشرعية الانتخابية النزيهة الحرة وتداول السلطة من خلال صناديق الاقتراع.
ولا شك أن ادراك الحاجة الى الديمقراطية الحقيقة، قد أصبح حالة ذهنية لدى جماهير شعبنا في الداخل والشتات، وأسفرت عن دعوات وحملات تدعو الى مؤتمرات للحوار الوطني ولانتخاب قيادة وطنية موحدة، من قبل ما يسمى بالشخصيات الوطنية أو الفصائل السياسية، فإن تلك الشخصيات والفصائل لا تمثل الشعب، وبالتالي فإنه حتى ما يسمى بالقيادة الوطنية الموحدة سيظل يفتقر هو الآخر للشرعية الانتخابية، ومشوب بشبهة تفرد أفراد أو أطر أو فصائل بالقرار، دون أن تتمتع بالشرعية التمثيلية الانتخابية للشعب.