"الالتهام الذاتي" هو مصطلح يستخدمه أطباء التغذية والمقصود فيه هو التخلص من الخلايا الميتة أو المتعبة من أجل إعادة إنتاج خلايا جديدة أكثر حيوية وذلك من خلال أسلوب الصيام المتقطع والذي يستمر لمدة 16 ساعة يمكن من خلالها شرب الماء فقط، وعند تناول الطعام يشترط أن يكون هذا الطعام بروتين بالدرجة الأولى وبشقيه حيواني أو نباتي مع الخضروات وبعض الفواكه قليلة السكر ومن الضروري استبعاد النشويات.
حسب أطباء التغذية فإن مثل هذا البروتوكول يساعد الجسم على التعافي من الكثير من أمراض العصر كالضغط والسكر وارتفاع الكوليسترول وغيرها ويجدد الحيوية والشباب للجسم والعقل.
لقد أشرت إلى هذه المقدمة ذات الطبيعة الطبية للدخول لموضوع الوضع الصحي لدولة الاحتلال والتي أخذت تظهر عليها أعراض الاعتلال والمرض البنيوي بصورة واضحة بعد 75 سنة من قيامها وهو وقت مبكر جداً في إعمار الدول والأمم لكن "إسرائيل" وبحكم عوامل كثيرة ومن أهمها أنها دولة مصطنعة كُونت وتكونت بإرادة استعمارية بريطانية وعلى عجل، فكانت "إسرائيل" في حالة أشبه ما تكون "بالمسخ" تحمل في ثناياها تناقضات حادة على الصعيد الاستراتيجي وخاصة ما يتعلق بمستقبل هذا الكيان ودوره وطبيعة هويته سواء السياسية أو الديمغرافية أو الدينية.
حسب ابن خلدون فإن الدول كالإنسان كما أشار في مقدمته الشهيرة، تبدأ كطفل وتنتهي كشيخ كهل تشيخ وتموت وفي حال موتها تكون قد فقدت أهم عنصر في إدامة حيويتها ألا وهو "الحكم الرشيد" ونبذ الحكم المطلق ومحاصرته، ودولة الاحتلال ربما لو كان ابن خلدون على قيد الحياة لتوقف كثيراً عند ظروف صناعتها وتحليلها ولكان قد أصدر الأحكام قياساً عليها بشأن الدول التي يصنعها المستعمر وبخاصة التي تقام بفعل القوة البحتة وبدون توفر طبيعي لمكون العنصر البشري أي السكان والارض والتاريخ.
خلال عام تقريبا وأقصد منذ بداية العام الماضي عام 2023 وعلى وقع أزمة نتنياهو وقضايا الفساد التي تلاحقه دخل مجتمع الاحتلال في معركة غير مسبوقة تاريخياً ألا وهي ما أطلق عليها نتنياهو وبخبث "الاصلاحات القضائية" والمقصود فيها وللتذكير تقليص صلاحيات المحكمة العليا في مسألة النظر بقرارات الحكومة ومدى معقوليتها ومدى انسجامها مع المصلحة العليا لدولة الاحتلال من عدمها وذلك بهدف تحصين نفسه ضد قضايا الفساد التي تطارده، ومن هنا بدأت الأزمة البنيوية داخل جسم الكيان وتسببت رغبة نتنياهو هذه بانقسام علني مجتمعي داخل الكيان لم يسبق له مثيل، ورغم أن شكل هذا الانقسام كان قانونياً إلا أن جوهره كان بنيوياً أي بين المجتمع العلماني والمجتمع المتدين أو "الحريدي" ، وتأسست هنا حالة "الالتهام الذاتي" لدولة الاحتلال، فكانت 7 اكتوبر بالنسبة لنتنياهو بمثابة "بركة ونعمة ربانية" سقطت عليه من السماء في ظل عدم استكمال مشروع التعديلات القانونية واستشعار صعوبة إنجاز تلك التعديلات التي تحصن رئيس الوزراء سواء أكان مازال بالخدمة أو بعد خروجه منها، ووفرت 7 اكتوبر الظرف المثالي لنتنياهو ليبدو "بطلاً" أمام المجتمع الإسرائيلي وليقوم بالرد على 7 اكتوبر بشعار القضاء التام على حماس رغم أنه كان أحد أهم المدافعين عن نظرية صناعة "ازدواجية التمثيل الفلسطيني" وصناعة سلطة في الضفة وأخرى في غزة، وتسهيل دخول الأموال إلى حماس علناً وبإشراف من الأجهزة الأمنية الإسرائيلية منذ عام 2018 والبالغة 15 مليون دولار شهرياً تصل نقداً إلى قيادة حماس.
تسبب صمود المقاومة في غزة على مدى نصف عام مزيداً من التشظي السياسي داخل المجتمع الإسرائيلي وتحديداً فيما يخص القضايا الحيوية التالية:
أولاً: قضية الأسرى والتي تعد تحدياً جوهرياً لنتنياهو ولحكومته التي لا تعتبر هذه القضية مهمة بل لا تعيرها أي أهمية وتستخدمها لغايات إدامة الحرب.
ثانياً: استمرار هجرة سكان غلاف غزة وابتعادهم عن سكناهم وكذلك سكان مستوطنات شمالي "إسرائيل" ورفضهم العودة بسبب حالة الحرب في الشمال وفي غزة والبالغ عددهم قرابة ربع مليون نسمة تقريباً وهما مجتمعان منتجان، في الجنوب إنتاج زراعي وفي الشمال تجاري وتقني.
ثالثاً: وبسبب الحرب وطول وقتها وحاجة جيش الاحتلال لمزيد من الجنود تفجر "لغم" بنيوي آخر هو تجنيد المتدنيين الذين يرفضون ذلك ويهددون بترك "البلاد".
رابعاً: بدء التناقض ولأول مرة بين واشنطن وتل ابيب بهذه الحدية بسبب الحرب على غزة ومآلات ذلك وهو مؤشر على تفجر الصراع بين الصهيونية العلمانية التي تدعمها واشنطن وبين "إسرائيل" الحريدية.
أعتقد أن دولة الاحتلال دخلت مرحلة "السرطان" أو "الالتهام الذاتي" ولربما سيكون لي مقالات أخرى بهذا الشأن لأهمية الموضوع.