سيب وأنا بسيب!

وصلت الأمور إلى خواتيمها، وآن الأوان للعودة إلى البدايات، للمربعات الأولى، وآن الأوان لإعمال نقد ذاتي لمسيرة الفصما لم يستدرك، واستقراء الأحداث من خارج صندوق السلطة الفلسطينية، وبعيداً عن فصائلية لم تجلب للشعب الفلسطيني إلا النكسات على مدى عقود طويلة.

أقول إن الأمور وصلت إلى خواتيمها، فاتفاقية أوسلو، فُعِل بها ما فُعِل على قارعة الطريق، وفعلت إسرائيل بتوابعها، وغدت مدن الضفة الغربية اليوم محتلة من جديد، لا سلطة للسلطة تمنع المحتل من اقتحام المدن والبلدات والمخيمات، ومنع عتقال آلاف الشباب والشابات، ووقف اغتيال المئات في الميدان بشكل متوحش إجرامي.

كل شئ وصل إلى منتهاه، المشروع الاستيطاني الاستعماري الذي لم يكن متوحشاً في تاريخه بعد عام 1948، كما هو الآن، ووصل العدوان على غزة منتهاه، دُمِّرت غزة عن بكرة أبيها، وقتل من الشعب الفلسطيني في غزة نحو 25 ألفاً ويزيد إن أحصينا المفقودين والموتى تحت الأنقاض، ويتم الدفع بأهل غزة في اتجاه الجنوب بقصد تحقيق "ترانسفير" جديد.

والصبر على استمرار الانقسام الفلسطيني بين غزة ورام الله، أو بين حماس وفتح، وإن شئت السلطة الفلسطينية، نفذ ووصل إلى منتهاه، ولم يعد الشعب الفلسطيني يقبله، أو يتفهم أسبابه، أو يحتمل نتائجه وتداعياته على مستقبل القضية، ولم تتوفر فرصة على مدى سنوات الانقسام، مثل هذه الأيام لتحقيق الوحدة الفلسطينية الكاملة، لأسباب أهمها أن العدوان على غزة، وعلى الضفة الغربية، والعداء الإسرائيلي اتجاه السلطة التي تعبت من الانتظار وحيدة على طاولة المفاوضات، قرّبت المسافة بين السياسي والعسكري، وبين النضال والانتظار، وبين الحرب والسلام.

وصلت الأمور إلى خواتيمها، إسرائيل لا تريد السلام، ولا تريد التنازل عن شبر من الأرض، وتسعى إلى تهجير جديد في الضفة الغربية، وليس في غزة وحدها، ولم تشهد الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، ولم تشهد التجمعات الاستيطانية انقساماً وتخلخلاً كما تشهد هذه الأيام، ولعل انقسام إسرائيل يشكل فرصة ذهبية لانهاء الانقسام الفلسطيني المقيت.

نقول للعالم: لا يكفي أن تعترفوا بحل الدولتين، الأهم أن تعملوا على تنفيذ هذا الحل، والأولى أن نقول فلسطينياً: لا يكفي أن تتحدثوا عن ضرورة المصالحة والوحدة، بل يجب عليكم تنفيذ الأمر، والحقيقة أن مفردة "المصالحة" معيبة، فالمطلوب وحدة وتوحد، واستراتيجية نضالية سياسية وعسكرية ودبلوماسية واحدة تحت مظلة سلطة تعتمد على وجوه جديدة من مختلف أطياف الشعب الفلسطيني، تكون فيها "فتح" جزءاً من كل، لا الكل في الكل، وأن يتم تخفيض "النَّفَس" الفصائلي لصالح المظلة الموحدة الشاملة العادلة، والقادرة، والنزيهة، والديمقراطية أيضاً، وأن نتخلص من الحكاية الطفولية الساذجة: "سيب، وأنا بسيب".

ما يحدث على أرض فلسطين يستوجب الخروج من الصناديق العتيقة، والنمطية في الخطاب السياسي، والتقليدية في مواجهة الأزمات، وأن يحظى الشعب الفلسطيني بقيادة موحدة يثق بها، ويجمع عليها، وأن لا يوضع الفلسطيني في خيار تعسفي تفريقي: حماس أو السلطة، وأن لا تُمنح إسرائيل بعد اليوم فرصة للعب على الطرفين في غزة والضفة، وربما تبقي إسرائيل اليمينية المتطرفة على حماس رغم شقاوتها، ككيان سياسي في غزة، حتى لا تعطي فرصة لوحدة بين الضفة وغزة، أو بين حماس والسلطة التي تقودها حركة فتح، وتتحكم في مفاصلها.

المطلوب من السلطة بعد ثلاثين عاماً ونيف من فشل مشروع أوسلو، أن تراجع اتفاقياتها، وأن تنقد ذاتها، ومسيرتها، وعلاقاتها بشعبها، وخياراتها، وارتباطها بمختلف ألوان شعبها، وليس في ما أقول سُبّة للسلطة الفلسطينية، ولكن الحقيقة أن السلطة لم تعد مظلة تمثل الشرعية الشعبية للجموع الفلسطينية، وإن كانت تمثل الشرعية بالمفهوم القانوني والدولي، وليس من العيب أن تراجع مسيرتها، وتصحح مسار البوصلة، وربما لا يحتاج الفلسطيني في هذه المرحلة، أكثر من حاجته إلى تحديد المسار، والثبات على مسار، وأن يكون المسار واحداً للفلسطيني في الضفة الغربية، وفي غزة، وفي مخيمات الشتات، وللفلسطيني في السلطة، وفي خارج السلطة، وربما لم يكن عبثاً أن أطلق صديقي نبيل عمرو على هذه النافذة اسم "مسار"، إلا في سياق هذه الدلالات التي صارت مسارات، وحارات.

كلمات مفتاحية::
Loading...