بقلم: أدهم ابراهيم
لعبت الدوافع الدينية دورًا هامًا في التاريخ، حيث استُخدمت كقوة فاعلة لتحقيق أهداف سياسية، مثل الهيمنة على مقدرات الشعوب واستغلالها أو بناء الإمبراطوريات. ومن خلال التلاعب بالمشاعر الدينية يتم تحشيد الناس لتحقيق أهداف محددة، لكونها توفر إطارًا روحيا وقيميًا يبرر استغلالها.
تستند الطائفية السياسية على استغلال الانتماءات الفرعية لتحقيق أهداف سياسية، حيث تُستخدم الهوية الدينية أو المذهبية كأداة لتعبئة الجماهير وتشكيل تحالفات سياسية، غالباً ما تكون على حساب الوحدة الوطنية.
في المشهد المضطرب في الشرق الأوسط، غالبا ما يتم تصوير الطائفية السياسية بشكل خاطئ على أنها متجذرة في الانقسامات الدينية فقط. ومع ذلك يكشف الفحص الدقيق أن وراء حجاب الخطاب الديني تكمن شبكة معقدة من المصالح الجيوسياسية، والصراعات على النفوذ والسلطة.
وفي حين يلعب الدين بلا شك دورا مهما في تشكيل الهويات والتحالفات في المنطقة، فإن اختزال الصراعات في أسباب طائفية فقط هو مبالغة في تبسيط الديناميات المعقدة القائمة.
في قلب الطائفية السياسية في المنطقة العربية تكمن المنافسات الجيوسياسية بين القوى الإقليمية التي تتنافس على النفوذ والهيمنة. وتخوض إيران والمملكة العربية السعودية، صراعاً متعدد الأوجه من أجل التفوق الإقليمي، وليس دفاعا عن طائفة معينة، وإن تمظهرت بهذا المظهر. أن السواد الأعظم من العنف الذي جر الويلات والخراب على منطقتنا العربية ليست له علاقة بالتوجه المذهبي أو الطائفي، وبالتالي فإن النزاعات المتفاقمة هي جزء من السياقات الجيوسياسية.
والكل يعلم أن أكثر الصراعات دموية ودلالة جرت داخل الطائفة السنية نفسها وخصوصا في العراق وسوريا بعد قيام القاعدة ثم تنظيم الدولة “داعش” بغزو عدد من المناطق. أما المناطق الشيعية في وسط، وجنوب العراق فإنها مازالت تعيش حالة من الأمية والفقر وانعدام الأمن والخدمات في ظل حكومات تتخذ من حماية الطائفة الشيعية شعارا لها.
وهكذا فإن الدعوات الطائفية تستخدم ذريعة للتستر على الهيمنة واستغلال النفوذ والفساد. وتدخل إيران وحزب الله في سوريا كان فعلا لأسباب سياسية وإستراتيجية وليس من باب التعاطف مع أشقاء التوجه الطائفي شأنه شأن التدخل الروسي فيها. وأن العديد من الصراعات للهيمنة والنفوذ والسلطة والثروة في الشرق الاوسط تستغل ما يسمى المظالم التاريخية لتحقيق المصالح التوسعية، أو نهب الثروات الوطنية.
وبالرغم من الدعوات الدينية والطائفية الظاهرة في السياسة الإيرانية، فإننا نجد أن مصالح الدولة لها الأسبقية على الطائفية: بعد عام 1991، فضلت طهران أرمينيا المسيحية على أذربيجان الشيعية العلمانية، كما دعمت الجهاد الإسلامي وحماس، وهما الفرعان الفلسطينيان لجماعة الإخوان المسلمين السنية، لتحقيق أهدافها في بسط نفوذها في المنطقة. وهناك تقارير تظهر الدعم الإيراني تحت الطاولة لمنظمات سلفية سنية متطرفة لنفس الغرض.
وفي سوريا، عمل نظام بشار الأسد العلماني، منذ البداية على شيطنة الاحتجاج الديمقراطي السلمي للشعب السوري، بوصف المحتجين بـ”إرهابيين سلفيين جهاديين”، أو بأنهم يهددون المجتمع العلوي أوالكنائس المسيحية.
ولا علاقة لتحالف نظام الأسد مع إيران ذات الأغلبية الشيعية ضد الجماعات المتمردة السنية والكردية بالأيديولوجيا الدينية بقدر ما يتعلق بالحفاظ على موطئ قدم إيران في بلاد الشام. وعلى نحو مماثل، تتغذى الحرب الأهلية اليمنية على التنافس السعودي الإيراني، حيث يتم التلاعب بالهويات الطائفية لخدمة أجندات جيوسياسية أوسع.
في خريف عام 2019، احتج المتظاهرون العراقيون وأغلبهم من الشيعة على الفساد، ونددوا بالحكومة الموالية لطهران وقامت الميليشيات الولائية بقمع المظاهرات بطريقة وحشية. وهكذا تظهر الصراعات في سوريا واليمن والعراق كيف تطغى المصالح الجيوسياسية على الاختلافات الدينية في تشكيل الديناميكيات الإقليمية. ويتلاعب القادة بالهويات الطائفية لتوطيد سلطتهم وصرف الانتباه عن المظالم الاجتماعية والاقتصادية.
كما تعمل الجهات الخارجية، على تفاقم الطائفية السياسية في المنطقة العربية من خلال استغلال المظالم المحلية ودعم الميليشيات الوكيلة المتوافقة مع مصالحها. تتطلب معالجة الطائفية السياسية، اتباع نهج شمولي يعترف بأسسها الجيوسياسية. ويتعين علينا أن نفهم الوضع باعتباره صراعاً سياسياً واقتصادياً يمكن حله وليس نزاعا دينيا متجذرا.
وعلى ضوء ذلك يتوجب على شعوب المنطقة إعطاء الأولوية للتصالح والاعتراف بأن السلام المستدام يعتمد على معالجة الأسباب الجذرية للنفوذ الأجنبي بدلا من إدامة دورات العنف.
ويجدر بنا أن نتعامل مع مظاهرها على أنها صراعات على الثروة والسلطة، وإن كانت مستترة بمصطلحات طائفية تستخدمها النخب السياسية للتلاعب بالجماهير وحشدها. إن إدراك الطبيعة الجيوسياسية للطائفية السياسية أمر بالغ الأهمية لوضع إستراتيجيات فعالة لتعزيز السلام والاستقرار في المنطقة.
يعد تعزيز الحكم العادل والتنمية الاجتماعية والاقتصادية واحترام حقوق الإنسان خطوة أساسية نحو تعزيز الاستقرار والمصالحة في المنطقة بعيدا عن التخندقات المفتعلة.