حرب إسرائيل على غزة ليست «نكبة ثانية»

لا يجوز التخفيف أو التهوين من الأهوال التي تعرّض ويتعرّض لها أهل قطاع غزة واللاجئين فيه منذ النكبة، من جرائم يرتكبها الجيش الإسرائيلي، والمتواصلة على طول ليالي ونهارات 175 يوماً، قصف وقتل وتدمير لكل مقوّمات الحياة البشرية، وتجويع وتعريض للأمراض والأوبئة. لكن كل ذلك، على فظاعته، وما ينشره من ألم ومعاناة مستمرة، ليس «نكبة» على الإطلاق.
نحت الشعب الفلسطيني تعبير «النكبة» ليدلّل بها على ما لحق به من ظلم غير مسبوق:
ـ تكسير وحدة وتماسك وتكامل الشعب الفلسطيني.
ـ توزيع الشعب الفلسطيني على أربعة كيانات سياسية: (1) الفلسطينيون في مناطق الـ48، داخل «الخط الأخضر» أي خطوط الهدنة بين الجيش/العصابات الصهيونية وجيوش «دول الطوق»: مصر وشرق الأردن وسوريا؛ (2) إخضاع أهل قطاع غزة واللاجئين فيه لـ«الإدارة المصرية»؛ (3) إلحاق أهل الضفة الغربية واللاجئين فيها شرق الأردن، وتشكيل «المملكة الأردنية الهاشمية»؛ و(4) تهجير نحو نصف أبناء الشعب الفلسطيني وتحويلهم إلى «لاجئين» في الدول العربية المحيطة، وقارات العالم الخمس.
ـ في حرب سنة 1948، و«النكبة» شاركت في الحرب العصابات الصهيونية، (الهَاغاناة والبلماح وإيتسل وليحي وغيرها) في مواجهة جيوش بعض الأنظمة العربية و«جيش الإنقاذ» واقتصر دور عدد قليل من المقاتلين الفلسطينيين على الدفاع عن مدنهم وقراهم ومضارب البدو، وكان عدد المقاتلين اليهود في تلك الحرب، أكبر من مجموع تعداد جميع جيوش الدول العربية. وعندما انطلقت مفاوضات الهدنة بين «إسرائيل» والدول العربية في مدينة لوزان بسويسرا، حاول المحامون الفلسطينيون الثلاثة: يحيى حمودة (ثاني رئيس لمنظمة التحرير، بعد أحمد الشقيري) ومحمد نمر الهواري (مؤسس حزب النجادة في فلسطين ثم في لبنان، والذي عاد إلى مناطق الـ48 بعد «النكبة» وعينته إسرائيل رئيساً لبلدية الناصرة، ثم عاد للعمل كمحام، وبعدها عيّن قاضياً في جهاز القضاء الإسرائيلي) وعزيز شحادة (من رام الله) طردهم «المفاوض» موشي ديّان، (وتكرّم بتسديد فاتورة إقامتهم في الفندق لتلك الليلة) بذريعة أن تلك المفاوضات تجري بين «جيوش نظامية» شاركت في القتال، وكانت نتيجة تلك المفاوضات رسم «الخط الأخضر» الذي استولت فيه إسرائيل على 23٪ من «أرض فلسطين» إضافة الى الـ55٪ التي فرضتها الشرعية الدولية، متمثلة بـ«قرار التقسيم» لسنة 1947، لإقامة دولة يهودية عليها.
عندما نضيف الى هذه الإجحافات بحقوق الشعب الفلسطيني كل ما ارتكبته العصابات الصهيونية من مجازر، لا تحصى، ضد شعبنا الفلسطيني، من دير ياسين الى الطنطورة ويافا وحيفا وعكا وعسقلان وأسدود واللد والرملة وغيرها، نصل الى ما تعارف شعبنا على إطلاق تعبير «النكبة» عليه. وطبيعي أن يكون من مصلحتنا التركيز على إبقاء هذا التعبير رمزاً، وتعميمه بأحرفه ولفظه ليصبح تعبيراً في كل لغات العالم عن الظلم والإجحاف بحياة وحقوق الشعب الفلسطيني الشرعية والطبيعية.

إذا كان ولا بد من ربط أحداث السابع من أكتوبر، وما تلاه من حرب إجرامية دموية على قطاع غزة واللاجئين فيه منذ «النكبة» ومن دعم وتحريض قطعان المستوطنين على التنكيل والعنف والقتل الذي يتعرض له أبناء شعبنا في الضفة الغربية، (والقدس الشرقية منها) فإنه في حقيقة الحال: ليس «نكبة» وانما هو محاولات فلسطينية، (قد شابتها وتشوبها بعض الأخطاء والخطايا) للرد على «النكبة» وإلغاء كل ما ترتب عليها من ظلم وإجحاف.
نؤمن نحن بأن «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً» ( القرآن الكريم، سورة المائدة: 32). هذه القاعدة، وأداة القياس، تنطبق على كل صاحب قرار وأمر ومنفِّذ في جيش الاحتلال الاحتلال الإسرائيلي، من نتنياهو حتى آخر جندي. لكن…
نتألم وننتحب ونبكي مع قتل الجيش الإسرائيلي لكل فتىً وطفلٍ ورضيعٍ فلسطيني. لكن هذه هي طبيعة أحداث الحرب والقتال والنضال من أجل التحرر والانعتاق، وهذه هي طبائع البشر.
من منّا نحن الفلسطينيين والعرب وجميع شعوب آسيا وإفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وضحايا الاستعمار الغربي، والأوروبي بشكل خاص، لا يفتخر ويعتز بثورة الشعب الجزائري الشقيق؟ ثورة وتحرّر الجزائر من الاستعمار الفرنسي الذي عانت منه الجزائر 132 سنة من الظلم والبطش والتنكيل والسطو؟
إنها ثورة المليون ونصف مليون شهيد. ولو اعتبرنا أن كل هذا العدد الهائل من الشهداء الأبرار، ومن ضحايا القتل والبطش الفرنسي، سقطوا في ست سنوات الثورة الجزائرية المجيدة، لكان معدل عدد الشهداء والضحايا الجزائريين 684 شهيداً وضحية في كل يوم على مدى ست سنوات متواصلة. ولو اعتبرنا ان هذا المجموع الهائل من الشهداء والضحايا سقطوا خلال طوال 132 سنوات استعمار فرنسا للجزائر، لكان معدل عدد الشهداء والضحايا الجزائريين 11360 شهيداً كل سنة، وهو ما يعني 31 شهيداً كل يوم، على مدى أيام 132 سنة متواصلة.
أعرف أن مساحة الجزائر عشرة أضعاف مساحة أرض فلسطين تقريباً. وأعرف أن تعداد شعب الجزائر الحر الشقيق ثلاثة أضعاف تعداد الشعب الفلسطيني. ولنا رغم ذلك أن نقارن.
كل طفل/ضحية فلسطيني في قطاع غزة هو عالم كامل من البراءة والأحلام لنفسه ولعائلته، ومن الوعود لنفسه ولعائلته ولشعبه وللعالم. ونكرر: من قتل طفلاً بغير حق، فكأنه قتل الناس أجمعين.
ملاحظتان أخيرتان:
ـ نتساءل: متى يعرف الإسرائيليون أن الناس في غزة والمقاتلين بينهم ليسوا أعضاء في «حماس» ولا في «فتح» ولا في أيٍّ من «الجبهات والفصائل والأحزاب»؟. إنهم فلسطينيون ينشدون الحرية ويعملون على أخذ حقوقهم المشروعة في الحرية وتقرير مصيرهم بأنفسهم، ويرفضون الظلم والحصار والإذلال، ويثورون على الاحتلال ويقاتلونه.
ـ متى يتعلم الإسرائيليون ويتعرفون على الثقافة العربية، ومنها، وفي طليعتها خطبة الخليفة الأول، أبو بكر الصّديق: « أيها الناس، من كان يعبد محمداً، فإن محمداً قد مات، (ولم يقل «استشهد») ومن يعبد الله فإن الله حي لا يموت». وها هي «أمة محمد» تتكاثر وتزداد قوة ونفوذاً.
تتفاخر إسرائيل، وتبتهج، باغتيالها وقتلها هذه الأيام لمروان عيسى وقبله صالح العاروري وقبلهما مؤسس حركة حماس، الشيخ أحمد ياسين و«المهندس» يحيى عياش. ماذا كانت النتيجة؟ لكل شهيد بديل ومتابع.
اغتالت من حركة فتح كبار قادتها: من أبو جهاد وأبو إياد وهايل عبد الحميد وقبلهم أبو يوسف النجار وكمال عدوان والقائمة تطول وماذا كانت النتيجة؟ كانت: لكل شهيد بديل، وإن لم يكن مثله فإنه أكثر حدة وتصميماً منه.

 

Loading...