ما مرّ فيه لبنان منذ توقيع اتّفاق القاهرة المشؤوم في تشرين الثاني 1969، لا يشبه ما مرّ فيه أيّ بلد في المنطقة، بما في ذلك الصومال واليمن والسودان والجارة سوريا التي باتت “ساحة” لحرب إسرائيليّة – إيرانيّة لا يعرف النظام الأقلّويّ فيها كيف التصرّف تجاهها.
بعد 55 عاماً على اتّفاق القاهرة الذي خالف اتّفاق الهدنة الموقّع في عام 1949 مع إسرائيل وشرّع السلاح الفلسطيني. بات مطروحاً: ألا يزال لبنان، بصيغته الحاليّة، بلداً قابلاً للحياة، خصوصاً مع فتح إيران، عبر “الحزب”، لجبهة جنوب لبنان؟
بات مطروحاً أيضاً: هل التورّط في فتح جبهة جنوب لبنان أسوأ قرار في تاريخ لبنان الكبير. بما في ذلك قرار توقيع اتّفاق القاهرة؟
حظي اتّفاق القاهرة بموافقة مجلس النوّاب اللبناني. ما لبث المجلس أن ألغى الاتفاق في عهد الرئيس أمين الجميّل.
لكنّ المجلس، الذي يتميّز في هذه الأيّام بغيابه الكامل عن الأحداث، لم يلغِ حقيقة مفاعيل اتفاق القاهرة الذي بُعث من جديد عبر صيغة “الشعب والجيش والمقاومة” التي تعني بين ما تعنيه مصادرة قرار الحرب والسلم في لبنان بواسطة السلاح الإيراني.
لماذا يمكن اعتبار قرار فتح جبهة جنوب لبنان، بحجّة دعم غزّة، أسوأ من اتفاق القاهرة الذي تسبّب بحرب صيف 1982 واجتياح إسرائيل للبنان وقضائها على صيغة العيش المشترك في غير منطقة فيه؟
الجواب في أنّ فتح جبهة جنوب لبنان كشف مدى تحوّل لبنان إلى مجرّد ورقة تستخدمها “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران في سياق مشروعها التوسّعي الذي يحوّل البلد إلى مجرّد بيدق في لعبة شطرنج، وهي لعبة يتقنها الفرس، بل هم مخترعوها.
الأهمّ من ذلك كلّه أنّ فتح جبهة الجنوب يأتي نتيجة تراكمات عمرها سنوات. من بين التراكمات التورّط المباشر للحزب في الحرب السوريّة الدائرة منذ ثلاثة عشر عاماً بين النظام والشعب السوري. لا يمكن الحديث فقط عن قرار إيراني باستخدام “الحزب” في سوريا من أجل بقاء بشّار الأسد في دمشق. لا يمكن ذلك بعدما لعب مقاتلو الحزب دوراً في غاية الأهمّية في تغيير التركيبة السكّانية، من منطلق مذهبي، لمناطق سورية معيّنة بما في ذلك دمشق نفسها وعلى طول الحدود اللبنانيّة – السوريّة. أكثر من ذلك، ما حدث كان تورّطاً عسكرياً في سوريا ألغى الحدود بين البلدين من جهة. وأكّد تفوّق الرابط المذهبي، وهو الرابط بين الحزب والنظام الأقلّويّ في سوريا، على كلّ ما عداه، من جهة ثانية.
تبيّن كم كان الملك عبدالله الثاني على حقّ عندما تحدّث منذ خريف عام 2004، بعيد سقوط العراق في يد إيران، عن “الهلال الشيعي” الذي يمتدّ من طهران إلى بيروت مروراً ببغداد ودمشق. لم يكن العاهل الأردني يقصد بذلك الطائفة الشيعية بأيّ شكل بمقدار ما كان يتحدّث عن المشروع التوسّعي الإيراني في المنطقة ببعده الفارسي. إنّه مشروع لم يكن ممكن التحقيق لولا الاجتياح الأميركي للعراق في عهد جورج بوش الابن.
مع فتح جبهة الجنوب، لم يعد مصير لبنان مرتبطاً بترتيبات أمنيّة ستسعى إسرائيل إلى فرضها بالقوّة مستقبلاً. يتجاوز الأمر جنوب لبنان بكثير، خصوصاً أنّ الضربة الإسرائيليّة الأخيرة في داخل دمشق استهدفت قادة “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني. هؤلاء القادة مسؤولون مباشرة عن جبهات سوريا ولبنان وفلسطين واليمن. وهم وراء كلّ ما له علاقة بالتآمر على الأردن من أجل زعزعة الاستقرار في المملكة الأردنيّة الهاشميّة. من هذا المنطلق، يبدو فتح جبهة جنوب لبنان أخطر بكثير على لبنان من اتفاق القاهرة والنتائج التي ترتّبت عليه. بما في ذلك انفجار الوضع في 13 نيسان 1975.
معروف كيف بدأت حرب غزّة يوم السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي عندما شنّت حركة “حماس” هجوم “طوفان الأقصى” الذي غيّر المنطقة كلّها كما غيّر إسرائيل نفسها، حيث جنون ليس بعده جنون على الصعيد الداخلي ووحشيّة ليست بعدها وحشيّة في التعاطي مع الفلسطينيين.
ما ليس معروفاً كيف يستطيع لبنان فكّ ارتباطه بحرب غزّة، وهل من مجال لفكّ هذا الارتباط في غياب القرار اللبناني. المؤسف أنّ لبنان، الذي فقد سيادته وقراره المستقلّ، صار جزءاً لا يتجزّأ من حرب غزّة. صار أيضاً جزءاً من الحرب الإيرانيّة – الإسرائيلية التي يعبّر عنها تدمير القنصلية الإيرانيّة في دمشق أفضل تعبير.
مع إطلاق الصواريخ الإسرائيلية الستّة على القنصليّة الإيرانيّة في دمشق. لم تعد الحاجة إلى التساؤل لماذا ذلك الغياب لكلمة باسم النظام السوري في الاحتفال بـ”يوم القدس” في بيروت.
تذهب الحكومة السوريّة كلّها برفقة رئيس الوزراء حسين عرنوس إلى السفارة الإيرانيّة للتعزية بالذين قتلوا في ضربة القنصليّة. في المقابل، لا وجود لمن يعزّي سوريا بفقدانها سيادتها وتحوّلها إلى حقل رماية إسرائيلي… ولا من يعزّي لبنان. ثمّة حاجة إلى من يعزّي بلبنان بعد تحوّله، بأكثريّة مواطنيه، إلى مجرّد متفرّج على عملية تستهدف تحويل جنوبه إلى أرض طاردة لأهلها الذين لا حول لهم ولا قوّة في مواجهة قرار فتح جبهة “مساندة” لغزّة.
لم يتعلّم اللبنانيون شيئاً من توقيع اتفاق القاهرة. لن يتعلّموا شيئاً من قرار فتح جبهة جنوب لبنان من دون سبب سوى الأجندة الإيرانيّة التي لا همّ لها سوى الدفاع عن مصالح “الجمهوريّة الإسلاميّة” لا أكثر.