محاولات الدفع لحرب أوسع، من أوروبا الوسطى حتى الشرق الأوسط

الجزء الأول

قبل بضعة أيام، تعرضت موسكو لهجوم إرهابي خطير، في ظل استمرار خطر الارهاب المنظم لدولة الاحتلال في محاولاتها استئصال غزة من الجغرافيا والتاريخ في إطار المحاولات الجارية بباقي المدن والقرى والمخيمات الفلسطينية بالضفة منذ زمن لتنفيذ المشروع الصهيوني الإحلالي ولتغير وجه الشرق الأوسط بما يحقق استراتيجية السياسة الخارجية للولايات المتحدة ومصالح الحركة الصهيونية العالمية.

- مخططات الغرب ومجمع الحرب

كنت سابقا قد كتبت حول العلاقة بين ما يجري في أوكرانيا وفلسطين ومناطق اخرى بالعالم اثيرت فيها بؤر التوتر والحروب. لكن الهجوم على موسكو حمل سمات الاستفزاز التي يحاول بها "مجمع الحرب" بالغرب، تصعيد الصراعات المذكورة باستمرار، سواء مع روسيا أو في الشرق الاوسط، أحيانا بموافقة المؤسسة السياسية الغربية السائدة، كأعمال قصف سوريا المستمر في منذ عهد ترامب حتى بايدن، أعمال الاغتيالات، إرسال المدمرات والبوارج البريطانية والأمريكية الى كافة بحار العالم، والهجمات على الطاقة النووية في محطة زاباروجيا وتفجير خط أنابيب الغاز نورد ستريم الروسي بالإضافة الى أعمال عدوان مختلفة كثيرة أخرى في اوقات سابقة.

- أبعاد تكامل الأعمال العدوانية

كان الهدف الرئيسي لمنظمي العملية الإرهابية في موسكو، وفقا لجميع المؤشرات المتوفرة والاعترافات، هو إثارة تصعيد الصراع الجاري في أوكرانيا وما حولها في وسط أوروبا في محاولة لتنفيذ رؤية بريجنسكي في ثمانينات القرن الماضي حول حصار روسيا والسيطرة على تلك المنطقة المسماة اوراسيا. إن هذا التصعيد يسعى إليه أولئك الذين لا يستطيعون بأي حال من الأحوال قبول هزيمة الغرب المحتملة أو تسوية سياسية في أوكرانيا وفق ما طرحته روسيا سابقا لإنهاء الأزمة. وهم على استعداد للمخاطرة حتى بحرب نووية من أجل تجنب تلك الخسارة. هنالك جانب ثانوي آخر، ولكن لا يستهان به بما تعلق بالهجوم الإرهابي في موسكو، وهو أنه شَكل محاولة لصَرف الانتباه مؤقتاً عن غزة، بينما كانت أنظار العالم تتركز على المذبحة الجماعية التي يتعرض لها ابناء شعبنا الفلسطيني.

- الإصرار على استدراج إيران

وبغض النظر عن مواقفنا من الرؤية الإيرانية التي قد تكون متباينة حول سياسات تحكمها مصالحها بالحفاظ على ما تحقق لها خلال الفترة الاخيرة وعلى مشروعها المختلف عن المشاريع الاخرى للمنطقة. فلم يمضي أسبوع تقريبا منذ استفزاز موسكو بالهجوم الإرهابي، حتى حصل استفزاز آخر على الجبهة الثانية لصراع الغرب مع بقية العالم. هذه المرة تم تنظيم الاستفزاز من قبل إسرائيل التي تسعى لإحلال إيران كعدو للعرب بدلاً عنها، وهي الدولة أي إسرائيل التي تعد إلى جانب جماعات الضغط التابعة لها عضوا بارزا ومركزيا في "مجمع الحرب الغربي"، والذي تمثل بالهجوم على البعثة الدبلوماسية الإيرانية في دمشق واغتيال عدد من الضباط العسكريين البارزين الإيرانيين فيها بما يخالف القانون الدولي والعرف واتفاقية العاصمة النمساوية "فيينا" للعمل الدبلوماسي. فمن الواضح أن هذا الإجراء هدف إلى إثارة روح الانتقام لدى إيران وجرها الى رد فعل، وفي النهاية إشراك الأمريكيين في حرب مع طهران. حيث جاء الهجوم الإرهابي الإسرائيلي بعد سلسلة من الهجمات الأخرى في سوريا ولبنان وبالتوازي مع مقتل سبعة موظفين أجانب لواحدة من آخر منظمات توزيع المساعدات الإنسانية العاملة في غزة، وهي منظمة المطبخ الدولي. هذه الجريمة التي ضج العالم وبحق لارتكابها. ألا أن حكومات الغرب كافة تلك قد صمتت إزاء الجريمة الفظيعة في مستشفى الشفاء في غزة، التي استغرقت أسبوعين من القتل والتدمير والتنكيل. وما كانت هذه الحكومات لتتحرك، وما كانت إسرائيل لتعتذر لو كان الضحايا فلسطينيون فقط.

-هل دماء أطفالنا رخيصة بعيون الغرب؟

لقد حظي مقتل السبعة بإدانة رسمية غربية واعتذار رسمي إسرائيلي يفوق بأضعاف مقتل 14 ألف طفل فلسطيني من ضمن 33 ألف قتلتهم اسرائيل. مشاهد انتشال الجثث المتحللة من محيط مستشفى الشفاء بغزة، تهز المشاعر والنفوس. ويبدو أن ما من فظاعة في هذه الحرب إلاّ وإسرائيل حاضرة لارتكاب ما هو أفظع منها. فدولة الاحتلال أداة المشروع الصهيوني العالمي ليست مدججة بأسلحة الفتك والدمار فحسب، بل بالحجج والتبريرات لكل جريمة ترتكبها. والان فهي ورغم جريمة التجويع ايضا التي تنفذها، لكنها لا تمانع في ان تتحول مسألة حرب الإبادة من جريمة سياسية وقانونية واخلاقية تتطلب عقاب دولي ووقف العدوان فورا وحلولا سياسية قائمة على وحدة الارض والشعب الفلسطيني، الى مسألة إنسانية فقط تتعلق بإدخال المساعدات دون وقف الإبادة، رغم ضرورات وقف المجاعة.

لكن بالطبع لا يوجد قانون للحرب أو السلام يربط الحكومة الحالية المستوحاة من الفاشية الدينية الشمولية في إسرائيل، الدولة الرئيسية في العالم بحكوماتها المتعاقبة جميعها التي خرقت جميع قوانين الحرب والسلام وكل المعاهدات الدولية التي عادة لا تشعر حتى بالحاجة إلى تبرير ما حدث.  

نفاق وانحياز الإدارة الأمريكية

ونذكر أنه منذ أشهر، ظل الدبلوماسيون الأمريكيون يحذرون عبر تسريبات مستمرة لوسائل الإعلام، من أن سياسة الرئيس بايدن المتمثلة في الدعم غير المشروط لإسرائيل بغض النظر عن بروز نقاط خلاف، قد تسهل تصعيد الحرب ضد لبنان وتوسيعها في جميع أنحاء الشرق الأوسط بما ويتفق مع فكر المحافظين الجدد الذين نشأوا في رحاب حزب بايدن. بل إن هؤلاء الدبلوماسيين يعتبرون أن مثل هذا التصعيد بالنسبة لنتنياهو هو خيار “البقاء السياسي”.

إسرائيل ترفض الخسارة ... وكما من الصعب جدا على الغرب أن يقبل هزيمة محتملة في أوكرانيا في حربهم القائمة بالوكالة ضد روسيا، فمن الصعب ايضا أن تقبل دولة الاحتلال الإسرائيلي الهزيمة في هذه المعركة التي تنفذها بكل اشكال الجرائم والفظائع والابادة والدعم والمساندة الأمريكية العسكرية والسياسية بما يتضمن منها مواقفها الاخيرة بالضحك على الذقون، والقائمة على قوتها المادية والعسكرية الساحقة من جهة بحق قوة النفس البشرية للشعب والمقاومة من جهة اخرى، وهو المؤشر والطابع المتكرر في التاريخ البشري منذ القدم بين قوى الاستعمار من جانب ومقاومة وكفاح الشعوب بكل أشكاله من اجل الحرية وفق حقها القانوني الدولي بذلك من جهة اخرى.  

فلقد وضعت حرب الإبادة شعبنا في وضع "الحرية أو الموت"، ففي كتابه تاريخ الثورة الروسية قال ليون تروتسكي " أن الثورة لا تفوز بامتلاك أسلحة أكثر من خصمها، ولكن عندما يكون الشعب الذي يتبعها مستعدا للموت لأفكارها ومبادئها "، وهذا ما حدث عبر مراحل مختلفة من تاريخ التحرر الوطني الفلسطيني الذي لم ينجز مهام الحرية والاستقلال الوطني بعد، رغم تبدل وسائل وأشكال الكفاح والساحات ومحطات الإنجاز والاخفاق في مواجهة مشروع استيطاني إحلالي يتخطى مفهوم الاحتلال العسكري المؤقت.

* يتبع الجزء الثاني.

Loading...