الحلقة الأولى
ننشر في مسار على حلقات المجموعة القصصية للشهيد ماجد أبو شرار "الخبز المر" وهي عبارة عن قصص قصيرة نُشرت في مجلة الأفق الجديد المقدسية في ستينيات القرن الماضي.
(1)
صورة
محمد اسماعيل، إنسان ودیع طيب، وعزيز على نفسي، لكن معرفتي به ترتبط بذكرى طريفة ومؤلمة، بالضبط لا أذكر التاريخ، فهو يأتي في الأيام الأولى من الصيف الذي أعقب تمزيق فلسطين، كنت طفلا لي من العمر سنوات عشر وبلدتي جبلية تستلقي هادئة على كتف جبل يتلفع دوما بخضرة رائعة مبعثها أشجار الزيتون الرومي القديم، وخضرة أشد روعة تأتي مع أنفاس الربيع الهادئة، لتتحول إلى صفرة براقة تفرش الحقول مع حلول كل صيف، ففي عصر كل يوم كنت ولداتي من الصبية تنزلق عبر ظلال الزيتون لننطلق بمرح ونشوة وسط حقول القمح الناضج نلعب كل لعبة عرفناها، ثم نجلس لنيل بعض راحة لننسل بعد ذلك بنزق ولا مبالاة لنغزو أول حقل قمح، ننزع السنابل المكتنزة عن عيدان الذهب لتمتلئ بعد لحظات جيوبنا بها، وما نفرغ من ذلك حتى نتوجه إلى قرب العين نختفي بين صخرتين كبيرتين متقابلتين
فيفرش أحدنا منديل رأسه ثم نكوم السنابل لتتعهدها أكفنا السفيرة بالفرك وأفواهنا المزمومة بالنفخ، فينفصل الحب عن القش وتبقى في وسط المنديل كومة هزيلة من قمح كنا نعتبرها ذات قوة شرائية تمكننا من ابتياع كل ما في حوانيت البلدة.
نفرغ من ذلك لنصعد مع سفح الجبل فنمر بكرم (الشيخ محمود) ثم نميل قليلاً لندخل دفعة واحدة حيث حانوت (إبراهيم راشد)، ندفع له بصرة القمح فيفرغها في الميزان ملقيا إلينا بالمنديل متمتماً (ماذا تريدون؟) ونختلف دوماً لنلتفت إليه وقد دفع إلينا صرة من ورق لف فيها حبات من تمر. في ذلك اليوم الذي لا أذكر تاريخه دخلنا الحانوت ودفعنا له الصرة، ولكزني أحمد وأشار برأسه تجاه المدخل الثاني للحانوت... وهناك رأيته.. رأيت محمد إسماعيل للمرة الأولى، عله كان في الاربعين.. لا أذكر إنسان كغيره من الناس لا يميزه عنهم إلا رأس خلا تماما من أي أثر للشعر.. فهو ذو جلد أصفر تشوبه حمرة خفيفة يلمع لمعاناً شديداً يبعث قشعريرة قرف في النفس.. نظرت إلى رأسه وأمعنت النظر ثم خرجنا ووقفنا عند باب الحانوت وهمست للصبية:
هل رأيتم الرجل الغريب الذي بالداخل؟
أشاروا برؤوسهم أن نعم.. فقلت:
- أريد أن ألمس رأسه الأجرد.
ضحكوا وسألني أحمد مستغربا:
وما شأنك بهذا الرأس القبيح؟!أجبت:
لا شيء... ادخلوا واطلبوا تبديل التمر بحلقوم وانظروا ما سأفعل.
دخلنا من جديد واتجهت إلى حيث يجلس ودرت من خلفه ولعقت باطن يدي بلساني وضربت بها بشدة على الرأس الأجرد، وانتصب الرجل فإذا له قامة جد طويلة وأراد أن يهوي بيده ليلطمني فدرت بسرعة وانطلقت لتتعثر قدمي بعتبة الباب، وصدم جسدي الصغير الأرض ونهضت منطلقاً بسرعة إلى البيت والدم يسيل غزيراً على وجهي ووصلت البيت لأجد أن شفتي العليا قد شرمت وعظم أنفي قد كسر واضطررت أن أكذب لأبرز ما حصل وتمتمت.. رجل في حانوت ابراهيم راشد ضربني فهربت وتعثرت قدمي..
صاح والدي مزمجراً:
وما الذي ذهب بك إلى الحانوت.
بلا تلعثم أجبت:
أرسلني المعلم لأحضر علبة سجاير.
وعاد والدي يسأل:
ولم ضربك الرجل؟
لا أدري.. لم أشعر إلا وهو يصفعني ويشتمني فهربت.
انطلق والدي غاضباً.. أما أنا فقد وليت هاربا إلى بيت عمتي وكلمات والدتي التي تتحفني بها كلما حاولت الكذب ترن في أذني (يا ولد حبل الكذب قصير..).
علمت في اليوم التالي أن والدي تعارك مع الرجل.. ثم تكشفت له الحقيقة فاعتذر له ودعاه لضيافتنا.. وحل الرجل تلك الليلة ضيفاً عليناً... ولعل أجمل ما في ضيافته أنه شفع لي في اليوم التالي عند والدي، فلم يعاقبني وفهمت من حديثه مع والدي أنه ينوي فتح حانوت لصنع وتصليح الأحذية في البلدة واستأجر في المساء حانوتا يقع في أعلى طرف السوق وفي مكان لا يبعد كثيرا عن بيتنا.
عاد بعد غياب أيام ومعه (العدة) وبدأ العمل، وفي شهور قليلة أصبح محمد اسماعيل حذاء البلدة دون منازع، عل مبعث ذلك اخلاصه الشديد لعمله واتقانه له.. فكنت إذا ما دخلت عليه الحانوت وجدته يكتفي بالنظر إليك قليلا ثم يعود لينكب على عمله.. وإذا ما نظرت في جدران الحانوت لوجدت أنها رشقت بكاملها بصور قطعت من مجلات منوعة لأطفال مختلفي السن والشكل وفي الجدار الذي يقابله رشقت صورة لامرأة جميلة لها ابتسامة حزينة وعيون هادئة عميقة النظرات.. لا يلبث بين حين وآخر إلا وينظر بوَلَهٍ إلى الصورة ثم يسلخ نفساً لاهباً من صدره العريض، يعود بعده إلى العمل من جديد.. وأذكر أنه غضب يوماً غضباً شديداً حين مزق طفل صورة كانت قريبة من متناول يده، كما ويروي عدد من رجال البلدة أنهم كثيراً ما فاجئوا محمد اسماعيل وهو يتحدث إلى الصور باكياً.. كما وأن سكان البلدة أصبحوا يسمونه بأبي جميل وجميل اسمي أنا وتسميتهم له بهذا الاسم مردها للحادثة التي حدثت لي معه عندما ضربته بكفي على رأسه والتي علم بها كل سكان البلدة، وكان البعض يسميه بأبي جميل الأقرع لخلو رأسه من أي أثر للشعر، وآخرون يسمونه بأبي الصور لولعه الشديد بها.
كان المفروض أن تكون علاقتي سيئة مع محمد اسماعيل لأن بدايتها لم تكن تبشر بخير لكن العكس هو الحاصل، فقد توطدت علاقتي به وأصبحت أقضي معظم وقتي في حانوته أتأمله حيناً وأتأمل الصور في أكثر الأحيان.
وكان إذا تحدث إلي أشعر بالحنان يقطر صافياً مع صوته المشروخ وكثيراً ما كان يتحسس رأسي ويدور بكفه الحانية على عنقي ثم تستقر فترة على كتفي ليعود إلى عمله من جديد.
بعد سنوات غادرت البلدة إلى المدينة المجاورة لإتمام دراستي الثانوية، فكنت لا أزور البلدة إلا لماماً أتمتع فيها بالجلوس إلى محمد اسماعيل الذي كثيراً ما جعلت منه واسطة لدى والدي كلما احتجت إلى مصروف أكثر ولم يفشل مرة واحدة في وساطته فلا يعود إلا والمبلغ في جيبه يسلمه لي حانياً باسماً.
في بلدتي يتزوج الشباب حين بلوغهم سن العشرين، وكل من يشذ عن هذه القاعدة دون عذر مقبول واضح فسيتعرض حتماً إلى تعليقات خبيثة يغمز بها جانبه كل يوم وكثير من الشباب باعوا كل ما يملكون ليتزوجوا ثم ليجنبوا أنفسهم تعليقات مبعثها عادات وتقاليد صارمة لا ترحم، وأصبح محمد اسماعيل هو المثل الحي لكل من لا يبادر إلى الزواج وذهب البعض إلى درجة أنهم قرروا أن يطلبوا منه تفسيراً لحالته، فرغم كونه غریباً عن البلدة فقد أصبح مع الزمن أحد أبنائها ومعنى هذا أن من حق الجميع التدخل في أدق شئونه الخاصة.. وعنّ لي يوماً أن أسأله عن سر عزوبيته فقلت:
الكل يسأل عن سر عزوبيتك وقد تقدم بك السن.
لمع الغضب في عينيه وتراقصت أشداقه وقال بصوت مشروخ:
وهل أنت كالآخرين؟
أجبت مذهولاً:
ماذا تقصد؟!
أقصد أن هذا ليس من شأنك.. ثم لا أقبل منك أن تفاتحني في هذا الأمر.
انخرست!.
ومضت سنوات.. ظلت علاقتي بمحمد اسماعيل قوية. وإن كنت أتساءل سراً في كل مرة أجلس فيها إليه عن سر غضبه حين سألته عن سر عزوبيته.
وكان يوم ذهبت فيه لزيارة ابن خالتي المقيم في مدينة بعيدة.. وفي المساء حضر بعض أصدقائه فقدمني إليهم فلان ابن خالتي من بلدة.. وذكر اسم البلدة فبادرني أحدهم:
اذن تعرف محمد إسماعيل
فوجئت، وسررت وأجبت:
نعم، أعرفه أحسن معرفة.
وكيف هو.
بخير وموفق في عمله.
فسلخ نفساً لاهباً من صدره وتمتم:
مسكين.
قلت في نفسي وجدت المفتاح.. وسألته:
ما مدى معرفتك به؟
أجاب:
هو أحد أقربائي.. فقد زوجه وولديه في معركة يافا.. وكاد يجن.. وهرب مع من هرب وبقي كالمعتوه شهوراً إلى أن اختفى فجأة ثم علمنا أنه يعمل في بلدتكم.
قلت بحسرة وتمزق:
اذن كان له زوجة وولدان.
أجاب:
- نعم وكبير هم حسن يشبهك إلى حد بعيد!!.
كتبت عام 1962