واقعية القوة في مواجهة القانون الدولي
اليوم العالم بكل مكوناته يقف في متابعة تصاعد التطورات الجارية في منطقتنا إضافة إلى حرب الوكالة بأوكرانيا وما لذلك من تداعيات على مناحي الحياة المختلفة بعد إن تحول العالم إلى قرية صغيرة وتحول الهاتف المحمول إلى كاميرات إعلامية تتيح معرفة التفاصيل وخاصة حجم الفظائع غير المسبوقة ضد شعبنا.
عجز القانون الدولي
مسؤولون في وزارة الخارجية الأمريكية يستقيلون مستشهدين بالإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل والتي أصبحت ممكنة بفضل الولايات المتحدة. فلقد اصبحت الشعوب اليوم قادرة على فعل التغيير في مواقف حكوماتها تجاه ما يجري. كما أنهم سوف يطالبون حكوماتهم ببذل المزيد من الجهد لوقف مثل هذه الإبادة الجماعية.
لكن وفي ظل تعدد الأطراف المعنية بالصراع في أوكرانيا ومنطقتنا وتعقد المشهد الدولي على إثر حرب الإبادة ضد شعبنا، تحاول الأقطاب الدولية وحتى الإقليمية أن تحدد تأثير ذلك على مصالحها وفي بنية النظام الدولي المتغير، خاصة من حيث أنماط التفاعلات الدولية بعد الحرب وتوازنات النظام الدولي القائم ومساراته المستقبلية.
فقد أثبت القانون الدولي والمؤسسات الدولية أنها تشكل حاجزاً ضعيفاً وعاجزاً أمام ممارسات وطموحات الغرب الجماعي بما في ذلك دولة الاحتلال الإسرائيلي التي تحظى بالحماية الأمريكية في تلك المؤسسات. فطالما الالتزام الأمريكي بأمن إسرائيل الإستعمارية مُستمر، يبقى كلامهم الآخر وهماً وسراباً جديداً وحبراً على ورق وبيع مواقف لخدمة أوضاعهم الداخلية المتأزمة ومعاركهم الانتخابية، وبالأمس اعترضت أمام اللجنة الخاصة بالأمم المتحدة المكلفة من مجلس الامن على طلب عضوية دولة فلسطين الكاملة، والتوقع بأن تصوت ضد ذلك بالفيتو إذا تم عرض الأمر على مجلس الأمن الأسبوع المقبل كما متوقع.
كما أن الترابط الاقتصادي المعقد وفلسفة المصالح المتبادلة بين القوى العظمى لم تمنع موسكو من إعادة بناء قدراتها والدفاع عن أمنها القومي في مواجهة تمدد الناتو من حولها لحصارها وفق ما أشرت له من خطط قديمة بمقالي السابق إضافة إلى تحديات الصين في بحرها الجنوبي، هو ما يدفع إلى تبني مقولات الواقعية القائمة على القوة كأساس للعلاقات الدولية حتى هذه اللحظة.
النكبة الثانية وقوة إسرائيل "الخفية"
وهذا في الواقع هو التهجير الوحشي الثاني للشعب الفلسطيني، باستخدام كافة الوسائل الإجرامية.
وبصرف النظر عن تدمير رأس المال السياسي و"الأخلاقي" لإسرائيل نفسها، فإنها تدمر أيضا رأس المال السياسي والأخلاقي لـ "الغرب الجماعي" منذ ذلك الحين، مع عدد قليل على الأمثلة من المواقف المناقضة لذلك مثل أيرلندا واسبانيا من دول الاتحاد الأوروبي التي تعلن عن نيتها باعترافها القريب بالدولة الفلسطينية.
لكن دولة الاحتلال، من خلال جماعات الضغط القوية المختلفة وعلاقاتها المميزة مع رأس المال المالي العالمي "إمبراطورية المال" لها تأثير حاسم على سياسة الغرب بأكمله وهي تشكل قوة دولة الاحتلال الخفية. لذلك ستستمر محاولاتها دون تراجع باعتقادي، في مواجهة تصاعد الرأي العالمي المناهض لإسرائيل اليوم وخاصة بالولايات المتحدة بشكل خاص والغرب عموماً.
إسرائيل ليست مجرد أداة
إن النظرية القائلة بأن إسرائيل مجرد أداة "دولة تابعة" للإمبريالية الأمريكية تفتقر إلى أساس متين، فهي عملية للتغطية على الآليات الحقيقية التي تحكم السياسة والاقتصاد العالميين. ويزداد الأمر سوء عندما نجد تجريبيا أن الإمبريالية الأمريكية غالباً ما تميل إلى الخضوع لمساعي الصهيونية الاستعمارية والسياسات الاسرائيلية والتي تشكل جزءاً من الإمبريالية العالمية التي بدأت تواجه أزمات بنيوية. فإن نتنياهو هو الذي هزم رئيس القوة العظمى أوباما بإلغاء اتفاقه مع إيران، وليس العكس. كما كان نتنياهو هو الزعيم والممول الرئيسي للمحافظين الجدد منذ تسعينيات القرن الماضي، وصاغ استراتيجية الحرب الدائمة وتدخلات تغيير النظام التي شهدناها في جميع أنحاء الشرق الأوسط بعد عام 2001، متبعاً أفكار عوديد ينون، والتي تشكل معيار سياسة حكومته اليوم كما أعلنها عدد من وزرائه لاستكمال مشروعهم الصهيوني التوسعي والاحلالي، وبما يتفق مع جوهر رؤية الولايات المتحدة للشرق الاوسط الجديد واتفاقيات أبراهام لاحقاً وتحديداً متابعة العمل على توقيع الاتفاقية السعودية مع إسرائيل والولايات المتحدة، وستكون برأيي أكثر وضوحاً وتوحشاً عند فوز ترامب ليتوسع بذلك التحالف الدولي لليمين الشعبوي مع الأقطاب المرتبطة بذلك في أوروبا.
- لماذا تحتاج إسرائيل إلى تصعيد الصراع؟
ونظراً للقضايا السياسية المتزايدة الأهمية التي يثيرها استمرار الإبادة الجماعية وفق مقولات واقعية القوة، سيكون من المرغوب فيه أن يكون لدى حكومة الاحتلال الإسرائيلية صراع عام يشمل المنطقة بأكملها ويخلق وضعاً حيث لا يهتم سوى القليل بما يحدث في فلسطين. ولذلك تشارك إسرائيل في دعم نظام زيلنسكي النازي في أوكرانيا وتساهم في إثارة بؤر توتر اخرى بالبلقان وفي الخلاف الأرمني الأذربجياني وغيرها من بؤر التوتر حول العالم ومساندة قوى الشد العكسي اليميني بأمريكا اللاتينية مثل ما ساندت بولسينارو اليميني بالبرازيل وما يجري الآن من محاولة في كولومبيا. كما ويعيق نتنياهو صفقة تبادل الأسرى والانسحاب وفق ما يجري الآن من سياسة تدخل مباغت لقواته والقصف الشديد في مناطق عدة بغزة بهدف إعاقة أي حلول ممكنة وتمرير مواقفه.
وإضافة على ذلك، فإن تغيير النظام في إيران كما في سوريا واليمن بعد فشل السياسات الأمريكية نسبياً فيها منذ الخريف العربي كما وبحرب اليمن، وتدمير الحركات المتحالفة معها مثل حزب الله وبعض الميليشيات المتمركزة في العراق، كان الحلم الكبير لنتنياهو منذ عشرين عاماً حيث تم تنفيذ عدد كبير من التدخلات لمحاولات القضاء على فكر المقاومة. لذلك فإنني اعتقد أنه سيمضي في هذا المشروع حتى النهاية لإشراك الولايات المتحدة في خطته أو توريطها، أيضاً من أجل بقائه السياسي كنقطة ارتكاز لليمين الشعبوي العالمي والذي يستقطب اليوم الحركات النازية الجديدة تحديداً في أوروبا وأمريكا اللاتينية، رغم أن الأميركيون، يدركون أيضا أساليب نتنياهو وأن مثل هذا الصراع في جميع الاحتمالات والاتجاهات سيكون من المستحيل السيطرة عليه ولهذا برزت بعض مفاصل التباين بالرأي بينهم.
ومن المحتمل أيضاً أن يتطور الصراع إلى قنبلة نووية في أوراسيا أو منطقتنا إذا توسع الصراع فيها، ولهذا السبب يبدو أن واشنطن لا تريد ربما مثل هذا الصراع. ولكن كما أظهر الهجوم الأخير على القنصلية الإيرانية في سوريا ومحاولات جرها إلى آتون الحرب، فإن إسرائيل لم تتخلى عن مواصلة مثل هذه الحرب، ما دامت حرب الإبادة والتهجير في غزة لم تتوقف، فإن فرص اندلاع صراع أوسع في الشرق الأوسط في نهاية المطاف كامتداد لما يجري في وسط شرق أوروبا الأوراسية ليست ضئيلة. مثلما أن فرص نشوب صراع نووي ليست ضئيلة ما دام الغرب يرفض قبول حقيقة أنه غير قادر على هزيمة روسيا أو الإطاحة بنظامها أو مواجهة الصين التي تتحرك بسياسات تخدم مصالح تطور نفوذها.
إدارة أوروبا
إنه لأمر خطير أيضاً أن تُدار أوروبا اليوم من قبل موظفي إدارة في غياب زعامات، هم عبارة عن دمى لإمبراطورية المال وحلف شمال الأطلسي، رغماً عن بعض الاستثناءات المشرقة التي تتخذ موقفا ضد كل من الحرب ضد روسيا وتسليح أوكرانيا وإسرائيل والإبادة الجماعية في غزة، مثل الحزب الجديد في أوكرانيا المناهض للنازية الجديدة، اليسار الألماني الجديد، وحزب فرنسا الأبية بزعامة اليساري جان لوك ميلينشون وهو الحزب الرئيسي لليسار الفرنسي المعارض لماكرون، إضافة إلى بعض القوى اليسارية والتقدمية المنتشرة في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى التي تقود فعاليات التضامن مع شعبنا.
ذلك ليس فقط في مواجهة الحرب التي تدور رحاها الآن فحسب، بل وأيضاً في مواجهة خطر حرب أعظم ربما تكون قادمة. فعلى الرغم من أن بايدن وكبار مسؤولي إدارته ينفون أي نيّة للتدخل مباشرة، فإن الحشود تؤشر بأن أميركا تعود إلى ملئ الفراغ الاستراتيجي الذي تركه منذ سنوات انكفاؤها عن الشرق الأوسط الذي تحتل بلدانه 60% من الاحتياطي العالمي للنفط و45% من الغاز الطبيعي إضافة إلى ما تشكله المنطقة من أهمية جيوسياسية وضرورة لتمرير مشروع "طريق التوابل الجديد" بالرعاية الأمريكية الذي يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الاوسط "المتجدد" في مواجهة مشروع "الحزام والطريق" الصيني ومشروع "قناة بن غوريون" في مواجهة قناة السويس للضغط على مصر.
لذلك أعادت إدارة بايدن التفكير في خطط الانتشار العسكري الأميركي في العالم، وخاصة في المناطق التي يمكن من خلالها احتواء كل من روسيا والصين ومحاولات تنفيذ مشاريع الهيمنة والحروب الاقتصادية.
مناهضة الدفع باتجاه توسيع الحرب
إن شعوب العالم تحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى حركة كبرى مناهضة للحرب في مختلف أنحاء الغرب تحديداً بما يذكرنا بحملة مناهضة الحرب ضد فيتنام بأمريكا سابقاً. إن إنشائها اليوم يشكل من جهة أخرى سندا لحركة الشعوب العالمية المتصاعدة المناصرة لفلسطين، وهو وقت مناسب له أهمية استراتيجية بالنسبة لنتيجة الوضع الحالي الخطير للغاية الذي يهدد السلم والأمن الدوليين.