إسرائيل: حروب المدن وتخريب الجيوش

المؤسسة العسكرية والأمنية في إسرائيل، وخصوصاً في زمن الحرب، كانت تبدو متماسكة وملتزمة بقرارات المستوى السياسي.

غير أن هذا التماسك والالتزام لم يكن ليخلو من استثناءات يبادر بها جنرالات أغرتهم وقائع الميدان المواتية لتطوير هجوم خارج عن قرار المستوى السياسي، وهذا ما فعله ايريك شارون في حربين كبيرتين أكتوبر 73، ولبنان 82.

المستوى السياسي كان يتعامل مع النتائج ويستفيد منها ولكنه كان يحيل الجنرالات إلى المسائلة عبر لجان تتشكل لهذه الغاية، إلا ان العقوبات لم تكن جدية مثل العقوبة التي وقعت على شارون إثر مذبحة صبرا وشاتيلا، والتي لم تحل بينه وبين الصعود إلى موقع رئيس الوزراء.

حرب غزة هي أطول الحروب الكبيرة والمكثفة في تاريخ إسرائيل.. وبمقياس النسبة والتناسب فهي الأكثر خسارة.

ونظراً للصعوبات التي لم تكن محسوبة عند اتخاذ المستوى السياسي لقرار اجتياح غزة، ونظراً كذلك لامتداد الحرب إلى مناطق أخرى أملت استدعاء الاحتياط بمئات الآلاف، فإن الجيش المفترض أن يكون شديد الانضباط في هذه الحالة ودقيق الالتزام بقرارات المستوى السياسي اعتراه خلل كبير.

وإذا لم يكن هذا الخلل واضحاً في أداء الجيش والاستخبارات على الجبهة الشمالية بحكم عدم التوغل في المدن والقرى المأهولة إلا أن ما يفعله الجيش في قطاع غزة حيث المدن المكتظة بالناس والمقاومين، يشي بحالة متصاعدة من المخالفات التي تبدو في ظاهرها انضباطية، بينما هي امتداد للأجندات المتصارعة داخل الحياة السياسية والحزبية في إسرائيل.

هنالك منشآت فلسطينية جرى تدميرها دون إذن من المستوى السياسي وأحياناً دون مراعاة آليات اتخاذ القرار العسكري من مصادره العليا، وهنالك قتل لا لزوم له وبالآلاف، قام به ضباط متوسطو المرتبة بدافع ليس فقط من غريزة الانتقام المتأصلة في نفوسهم وإنما كذلك بدافع من التزامهم بأجنداتهم الحزبية والعقائدية، وهذه الحالة تتفاقم وتتصاعد كلما ازدادت اختلافات السياسيين ورؤآهم للحرب وأهدافها.

الذي أدخل هذا البعد الخطر في أداء الجيش الإسرائيلي، هو المايسترو بنيامين نتنياهو، الذي حوّل إسرائيل الدولة العميقة بما في ذلك جيشها وكافة مؤسساتها، كالحكومة والكنيست والقضاء إلى أداة لتحقيق أجنداته الخاصة، واعتمد تحالفاً باهظ التكاليف داخلياً وخارجياً لتمكينه من مواصلة لعبته، وأساسها الإفلات من المسائلات والبقاء أطول مدة في سدة القيادة والقرار، وحين يكون الرجل الأول في إسرائيل هكذا فما الذي ينجي الجيش والمؤسسات الأمنية من الاستقطابات والغرق في دوامة صراع الأجندات.

نتنياهو مايسترو التخريب المنهجي للمؤسسات جميعاً وعرّاب الاجتياح البري لكامل قطاع غزة، يتمتع بحماية دستورية توفرها أغلبيته الراسخة والمريحة في الكنيست، وهذا ما ضاعف المصائب على إسرائيل وجيشها، ويتمتع كذلك بدعم الأغلبية الشعبية التلقائي، لقرارات الحرب التي يقودها دون أن تؤثر عليه مفارقة أن الغالبية التي تدعم الحرب هي ضد إدارته الفاشلة لها.

ويتمتع كذلك بالقيود الداخلية في أمريكا التي تجعل من إدارة بايدن عاجزة عن معاقبته جرّاء خروجه الفظ عن النص الأمريكي مكتفية بانتقادات يراها من النوع الذي يمكن التعايش معه و حتى التحايل عليه.

التوغل العسكري الإسرائيلي في غزة، حيث الأنفاق والاكتظاظ السكاني والملاذات الآمنة للمقاومين وعدم تحقيق النتائج التي تم الاجتياح العسكري من أجلها لم ينهك فقط قوى الجيش المتوغل والغارق في الأوحال والذي يخسر قتلى ومعدات كل يوم، بل خلخلت قواعد الانضباط والالتزام بالمستوى السياسي "الشرعي" وذلك لمصلحة الالتزام بالأجندات وهذا أكثر ما يؤرق الأمريكيين تخصيصاً حيث الجيش الإسرائيلي هو الاستثمار الأهم والاحتياط الاستراتيجي الإقليمي الذي  لا يريدون رؤيته يضعف، إلى حد فقدان الفاعلية الحاسمة عند اللزوم، وهذا ما لخصه وزير الدفاع الأمريكي بجملة واحدة، حين خاطب الإسرائيليين "قد تكسبون الحرب تكتيكياً ولكن ستسخرونها استراتيجياً"

الخلاصة.. أي جيش مهما بلغت قوة معداته وتقدمها يفقد أهم خصائص تفوقه وضمان انتصاره إذا ما توغل في المدن والتجمعات السكنية المكتظة، أمّا خصوصية الجيش الإسرائيلي في هذا الأمر فهو من يؤدي حربه بتأثير مباشر من أجندات الصراع الداخلي وانتماءات الضباط والجنود لها.

 لقد تقدم الصحافي الشهير والحريص على مصالح إسرائيل العليا توماس فريدمان، بنصيحة لصناع القرار في إسرائيل قال فيها "أخرجوا جيشكم من غزة فوراً".

لقد تعودنا على توماس فريدمان أن ينطق بما لا يستطيع الرئيس بايدن أن ينطق به، وهذه خلاصة تؤكد أن الغرق في الحواري والشوارع والأنفاق لا نصر من وراءه.

Loading...