ما يحصل في قطاع غزة لا يمكن أن يصدقه عاقل في هذا العصر، فهو يتعدى مجرد حرب عادية يمكن أن يقع في إطارها ضحايا من المدنيين أو استهداف خاطئ لشخص أو لمجموعة، أو حتى محاولة انتقام من جماعة بسبب قيام بعض أفرادها بعمل مقاوم، وهذا كانت تفعله القوات الاستعمارية الفاشية ضد قرى بأكملها كانت تحرقها وتبيدها إذا ما قام أشخاص منها بهجوم على قواتها، أو محاولة لكيّ وعي المواطنين لدفعهم لعدم دعم أو تأييد من يقاوم الاحتلال، بل هو كل ذلك، والأخطر هو السعي لحل مشكلة الاحتلال مع غزة بكاملها من خلال تدميرها وتحويل الحياة فيها لمستحيلة، ودفع المواطنين للهجرة بعدما فشلت محاولات تهجيرهم قسراً . والمشكلة التي تواجهها إسرائيل مع غزة أنها كانت على الدوام تحمل عبء القضية الوطنية ولديها استعداد لتحمل التبعات المترتبة على المقاومة، بسبب الطبيعة السكانية لغزة، حيث إن الغالبية هم من اللاجئين وظروفهم المادية والاقتصادية ليست جيدة، وبالتالي علاقتهم بالثورة هي علاقة الانتماء العميق والبحث عن الخلاص الوطني.
والاحتلال الإسرائيلي على ما يبدو وصل إلى قناعة بأن بقاء غزة كما هي حتى في ظل الحصار الظالم والوضع البائس والعقوبات الجماعية لن يمنعها من أن تسبب مشكلات جدية لإسرائيل، فجاء هجوم السابع من أكتوبر كفرصة جيدة لتنفيذ مشروع التهجير الجماعي الذي في حده الأدنى تخفيف الكثافة السكانية في القطاع بصورة كبيرة وخلق شروط اقتصادية مريحة لأهل غزة، وكما يقول بنيامين نتنياهو تحويلها إلى سنغافورة، لكن بشرط واحد أن تكون مفصولة تماماً عن الضفة الغربية وألا تقوم دولة فلسطينية موحدة. والإسرائيليون الآن يكررون اللازمة التي يتبناها نتنياهو ببقاء غزة تحت حكم إدارة محلية مرتبطة بالاحتلال لا "حماس ستان" لا "فتح ستان"، ولكن فكرة حكم "حماس" قد تعود للواجهة من جديد إذا لم يكن هناك بديل محلي، ولكن ليس بشكل مباشر، فهذا أهون “الشرور” بالنسبة لإسرائيل لأنه يعفيها من الاستجابة للمطلب الدولي الطاغي بإقامة دولة فلسطينية وتطبيق مبدأ حل الدولتين.
في غزة انهار عالم المواطنين الخاص، جرى تدمير بيئتهم التي اعتادوا عليها وتأقلموا معها خلال عشرات السنين، فما يملكه غالبية المواطنين هو البيت الذي خرجوا به من هذه الدنيا، وهذا غالباً قد تدمر وتعرض لخراب كبير، ولم يعد الوضع قابلاً للعودة إلى ما قبل الحرب، فهناك عوامل نفسية كبيرة مرتبطة بهذا الدمار العظيم الذي لحق بالمواطنين، الذين فقدوا بيوتهم وممتلكاتهم وكل ما لديهم، وأصبحوا صفر اليدين. والدمار النفسي هنا أكبر بكثير من مجرد خسارة ممتلكات. هذا عدا عن أن عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب أصبحت مستحيلة حتى لو قام العالم بتعويض الفلسطينيين وبنى لهم بيوتاً ومدناً جديدة. وحتى نستوعب حجم المأساة علينا أن نفكر بعشرات الآلاف من الشهداء الذين سقطوا وكانوا جزءاً أصيلاً من المشهد، ولهم بصمات في كل التفاصيل. وحتى لو تجاوزنا البُعد النفسي والكآبة التي ستبقى مسيطرة على الوضع لفترة طويلة قادمة، كيف يمكن حل مشكلات من نوع تحديد أماكن البيوت والشقق، وكيف يمكن لغزي فقد كل أوراقه الثبوتية أن يثبت أن هذا البيت أو هذه الشقة أو قطعة الأرض تعود له إذا كانت غير مسجّلة في السجل العقاري، وهذا الوضع قائم بصورة كبيرة في غزة، التي تعتمد على عقود شراء وبيع لم يعد بالإمكان إثبات وجودها. هذا فقط نموذج واحد لحجم مأساة أخرى في انتظار الغزيين بعد انتهاء الحرب.
الناس ينتظرون بمنتهى اللهفة العودة لبيوتهم وممتلكاتهم حتى لو كانت مدمرة، مع كل ما يمكن أن يواجههم من مشاكل في إيجادها والتعرف على تفاصيلها، ومع كل النواقص المتعلقة بدمار البنية التحتية المدنية الكامل. وهذا يعني أنهم سيعانون لفترة طويلة من نقص أو انعدام كل الخدمات الأساسية. في حين أن الحرب أفرزت تجاراً لا ذمة ولا ضمير ولا أخلاق لهم، وليس لهم أي انتماء وطني لهذا الشعب المكلوم. وللأسف جُلهم من الذين تسببوا بهذه الكارثة التي لحقت بشعبنا. فـ "حماس" لا يكفيها ما يحصل من دمار وكوارث لغزة، بل إنها تسيطر على كل السلع الأساسية الداخلة للبلد، فإما أن تقوم بشرائها من التجار ثم تبيعها بأسعار فلكية تستغل فيها حاجة الناس بصورة بشعة وغير أخلاقية، أو تقوم بمصادرة قسم من البضائع فتجعل التجار يلجؤون لرفع الأسعار لاسترداد أموالهم التي صادرتها "حماس" وهذا عبء هائل وكبير على المواطنين.
الكارثة التي تجري في غزة والتي ستتكشف أبعادها لاحقاً هي الهجرة التي تحصل بأعداد كبيرة لكل من استطاع إليها سبيلاً. فالمواطنون الذين يمتلكون جنسيات أجنبية غادروا، والذين لديهم أقارب درجة أولى في دول أجنبية ويحملون المواطَنة فيها أيضاً غادروا، ومن يمتلك المال ويستطيع دفع آلاف الدولارات لتجار الحرب الآخرين غادر، ومن استطاعوا بيع ممتلكاتهم وكل ثمين لديهم بتراب الفلوس غادروا، ومن لديهم واسطة كبيرة غادروا. ولو فُتح باب الهجرة للجميع لغادر عشرات بل مئات الآلاف من المواطنين. ويتحدثون عن الانتصار العظيم والصمود الكبير على أنقاض المباني المدمرة وبقايا الحياة المهشمة ورغبة المواطنين في شراء حياتهم بأي ثمن. فعن أي نصر يتحدثون؟