تردّ “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران أو لا تردّ على الضربة التي تلقّتها من إسرائيل في سوريا، يوجد واقع لا يمكن الهرب منه على الرغم من أنّ الردّ الإيراني مرجّح. يتمثّل هذا الواقع في أنّ إسرائيل أزالت غزة من الوجود فيما العالم يتفرّج على وحشيّتها. وفيما تتصرّف “حماس” وكأنّها حقّقت انتصاراً.
ترفض حركة “حماس” أخذ العلم بما حلّ بغزّة وأهلها. انضمّت “حماس”، التي يبدو مصير غزّة وأهلها همّها الأخير، إلى بعض العرب الذين هم على عداء مستمرّ مع الحقيقة. هؤلاء يرفضون التعلّم من تجارب الماضي القريب. هؤلاء مثل الحزب الذي يعتبر الانتصار على لبنان بديلاً من الانتصار على إسرائيل… كما حصل في مرحلة ما بعد انتهاء حرب صيف عام ألفين وستّة. بالنسبة إلى “حماس”، يبدو الانتصار على غزّة، في غياب القدرة على إعادة الحياة إلى “الإمارة الإسلامية” التي أقامتها فيها، بديلاً من الانتصار على إسرائيل!
لا تستطيع الحركة الاعتراف بأنّها تسبّبت بتدمير القطاع، وأنّ حجم الخراب الذي تعمّدت إسرائيل إلحاقه بغزّة يجعل منها أرضاً طاردة لأهلها لسببين على الأقلّ. أوّلهما حجم الدمار الذي تعرّض له القطاع والأضرار البيئية التي لحقت به، والآخر غياب الرغبة في إعادة بناء غزّة. تبدو هذه الرغبة واضحة في غياب أيّ تصوّر لمرحلة ما بعد نهاية الحرب. لا يوجد طرف عربي أو غير عربي مستعدّ لإنفاق مليارات الدولارات في غياب مشروع واضح يتعلّق بمستقبل غزّة ومن يسيطر عليها.
في انتظار اليوم الذي تفيق فيه “حماس” على واقع غزّة وما أدّى إليه هجوم “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي. نشهد حاليّاً حرباً إيرانيّة – إسرائيليّة ذات طابع معقّد. لا يعرف العالم كيف التعاطي مع هذه الحرب التي طغت على حرب غزّة. وحدهم العرب الشرفاء ما زالوا يفكّرون في غزّة وفي كيفيّة التوصّل إلى وقف للنار يوقف الوحشيّة الإسرائيليّة. ويسمح بالتفكير في وضع حدّ للكارثة التي حلّت بالغزّيّين الذين يعاني قسم منهم من الجوع.
هربت إسرائيل من حرب غزّة إلى مكان آخر. استهدفت قنصليّة إيران في دمشق وقتلت المسؤولين عن منطقة الشرق الأوسط وما هو أوسع منها في “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري” الإيراني. على رأس هؤلاء كان محمد رضا زاهدي الذي يُعتبر المسؤول الأوّل في “فيلق القدس” عن ملفّات سوريا ولبنان، وربّما ملفّات أخرى. وضع بنيامين نتنياهو إدارة جو بايدن في موقف حرج. لا تستطيع الإدارة الأميركيّة التخلّي عن إسرائيل في حال قرّرت إيران الردّ، خصوصاً إذا استهدفت أراضي إسرائيليّة. في المقابل، تسعى “الجمهوريّة الإسلاميّة” إلى جعل العالم يعيش على أعصابه. يؤكّد ذلك قول يحيى رحيم صفوي المستشار العسكري لـ”المرشد” علي خامنئي: ”نفّذنا عملية نفسية وإعلامية ناجحة ضدّ إسرائيل. حقّقنا الهدف. لقد أخافت (إيران) كلّاً من الولايات المتحدة وإسرائيل وأرعبتهما. هذه الحرب النفسية والسياسية والإعلامية أصبحت أفظع بالنسبة لإسرائيل من القتال. إذ أجبرت بعض القوات الإسرائيلية على الفرار أو الاحتماء ليلاً خوفاً من الهجوم”.
هربت إسرائيل إلى ضرب إيران مباشرة في دمشق وهربت إيران إلى حروب على هامش حرب غزّة انطلاقاً من جنوب لبنان أو من اليمن. في الوقت ذاته، توفّر “حماس” كلّ ما يطلبه “بيبي” من أجل متابعة حربه على الغزّيّين. في النهاية، توجد ضحيّة وحيدة لـ”طوفان الأقصى” الذي تسبّب بحرب غزّة. هذه الضحيّة هي غزة نفسها وأهلها مع خوف دائم من امتداد هذه الحرب إلى الضفّة الغربيّة. أسوأ ما في الأمر أنّ كلّ الجهود المبذولة عربيّاً من أجل وضع حدّ للمأساة لا تجد صدى في عالم غاب عنه المنطق والشعور الإنساني.
يظلّ أسوأ ما في الأمر أنّ لدى “حماس” حسابات خاصة بها. لا تعرف الحركة أنّها انتهت وأن لا مجال لعودة “الإمارة الإسلاميّة” التي أقامتها في غزة طوال سبعة عشر عاماً. قضت فيها كلّياً على كلّ مظهر حضاري في القطاع ووضعت نفسها في خدمة اليمين الإسرائيلي عبر الصواريخ التي كانت تطلقها بين حين وآخر. دعمت “حماس” موقف اليمين الإسرائيلي الذي كان ولا يزال يقول إنّه “لا وجود لطرف فلسطيني يمكن التفاوض معه”.
يعيش العالم على وقع ردّ إيران المحتمل. فيما المفاوضات دائرة بين “الشيطان الأكبر” الأميركي و”الجمهوريّة الإسلاميّة” من أجل جعل هذا الردّ من النوع الذي لا يستدعي تورّطاً أميركياً أو صداماً مباشراً مع إيران. يستفيد رئيس الحكومة الإسرائيلية من هذا الوضع. لا يسمح الوضع الداخلي الإسرائيلي في ظلّ التهديد الإيراني بأيّ تحرّك ضدّه. يستفيد “بيبي” أيضاً من التهديدات الإيرانيّة كي يتابع حربه على غزّة التي باتت ضمانة له من أجل البقاء في السلطة أطول فترة ممكنة.
قبل تسعة عشر عاماً، انسحبت إسرائيل من غزّة. كان في الإمكان تحويل القطاع إلى مكان معقول يُظهر للعالم أنّ في استطاعة الفلسطينيين إقامة نواة لدولة فلسطينية ناجحة ومسالمة في الوقت ذاته. فشلت السلطة الوطنيّة الفلسطينيّة، بقيادة محمود عبّاس (أبي مازن)، في أن تكون في مستوى الحدث. ما لبثت أن رضخت للانقلاب الذي نفّذته “حماس”، وهي جزء لا يتجزّأ من تنظيم الإخوان المسلمين. يدفع الغزّيّون إلى يومنا هذا ثمن الانقلاب الذي نفّذته “حماس” والذي كرّس الانقسام الفلسطيني.
يظلّ الخوف الكبير، إلى اليوم، من أن ينسى العالم غزة وأهلها في حال تطوّرت الحرب الإيرانيّة – الإسرائيليّة وأخذت المنطقة إلى مكان آخر، وفي حال استخدام أسلحة غير تقليديّة… وفي حال وجدت أميركا نفسها عاجزة عن إقناع “الجمهوريّة الإسلاميّة” بأنّ ثمّة خطوطاً لا يمكن أن تتجاوزها. بما في ذلك تعطيل الملاحة في مضيق هرمز، على سبيل المثال وليس الحصر!