بقلم: عبد الغني سلامة
تشترك الحركات والأنظمة الثورية الراديكالية بمجموعة من السمات والنزعات، سواء أكانت جماعات أم دولاً.. أولها أنها تمتلك عقيدة أيديولوجية، وتعتقد بيقين لا يتسرب إليه الشك أن عقيدتها هي الأيديولوجيا الصحيحة والوحيدة، وأن نبيها أو فيلسوفها أو زعيمها المؤسس قال الحقيقة النهائية.. قد تكون هذه الأيديولوجيا إسلامية، أو مسيحية، أو يهودية، أو يسارية، أو قومية، أو يمينية.. لكنها من وجهة نظر أصحابها هي الصواب المطلق، وبالتالي لا تقبل أن ينافسها أو يقاسمها أحد، وعلى الآخرين اتباعها.
وعادة ما تقوم هذه الأيديولوجيا على فكرة التفوق العرقي (الشعب المختار، والعرق الأنقى، والدين الصحيح..)، وعلى قاعدة من ليس معي فهو ضدي، وعلى شيطنة الخصوم، ونزع أي صفة إنسانية عنهم، ومعاداتهم بمعادلة صفرية (إما نحن أو هم)، وهذا يلغي أي إمكانية للتعايش، أو للمساومات والحلول السياسية والإنسانية.
ومن خلال الإعلام (وهو دائماً موجه) يتم الدمج بين الأيديولوجيا والشعار والمقدس من جهة والقادة والزعماء من جهة أخرى، بحيث يتهيأ للعامة أن هؤلاء هم من يجسدون كل ذلك، فيكتسبون قداسة الديني، وطهارة الفكرة، وقوة الشعار، وهذا يمنح القائد إمكانية التفرد بالقرارات، وتصبح اجتهاداته نظرية ثورية، وشطحاته الفكرية قمة الحكمة، وبالتالي تتعطل أي إمكانية للمراجعات والنقد الذاتي، بل يصبح أي انتقاد للقيادة تعدياً على المقدس، وشقاً للصف.. ومن ثم تستغل القيادة تلك القداسة والرمزية التي اكتسبتها بتمرير كل ما تريد، وبفرض سلطتها بالقوة والقمع والاستبداد، ودون أي مساءلة أو نقد.
قد تقبل السلطة الثورية تحالف أطراف أخرى لأغراض مصلحية وسياسية وضمن مرحلة مؤقتة، لكنها تظل تنظر للحليف على أنه تابع، وقد تقبل (أو تكون مجبرة على ذلك) بوجود فئات اجتماعية أو طوائف أو مجموعات ثقافية معينة ولا تتفق معها في الأيديولوجيا، لكنها ستخضعهم لقوانينها وتعاليمها. وستظل تنظر إليهم بفوقية أولاً، وبعقلية الشك والريبة، فهؤلاء بالنسبة إليهم إما كفار، أو رعايا، أو أناس مضللون ويتوجب هدايتهم.
ستمتلك هذه الجماعة تنظيماً هرمياً (قد يكون سرياً، أو علنياً فرض نفسه بالقوة، وقد يصبح الحزب الحاكم)، ولهذا التنظيم تراتبية صارمة، والعلاقات بين القمة والقاعدة قائمة على السمع والطاعة والامتثال، وتنفيذ التعليمات بدقة.. وشيئاً فشيئاً، ومع انتشار التنظيم وأفكاره وتغلغله في المجتمع يتحول التنظيم وأتباعه والبيئة الاجتماعية إلى قطيع..
وبغض النظر عن طهارة ونقاء الرواد الأوائل، بمجرد استلام الحزب للحكم، أو سيطرة الجماعة على منطقة ما، تبدأ على الفور طبقة السلطة بالتشكل، وتتبلور معها مصالحها الخاصة، وهي مكونة من قيادات الصف الأول والثاني، وحلفائهم من التجار ورجال الدين، والعشائر، والتكوينات الأخرى المسيطرة، ومن كل طامح بالمشاركة، أو مستعد للتملق.. ومع مرور الوقت تبدأ مصالح هذه الطبقة بالتعارض والابتعاد عن مصالح عامة الناس، وخلال فترة وجيزة تتعمق التناقضات بين الطرفين، وبالطبع ستكون الغلبة للسلطة التي ستلجأ للقمع بالضرورة.
وغالباً ما ينشئ الحزب الحاكم تنظيمات شعبية مرادفة: مجموعات المؤيدين والأنصار، فرق كشافة، فتيان، نقابات واتحادات شكلية.. ويتم منحها صلاحيات وامتيازات محددة (خارجة على القانون)، ما يدفع العامة للتقرب من هذه الجماعات وقياداتها للاستفادة من تلك المزايا.. وهذا بدوره ينثر بذور الفساد، وسرعان ما يتعمق، ويصبح من سمات المجتمع والنظام.
وأبرز ما يميز الجماعات الراديكالية ثقافة الشعارات، وغالباً ما تكون شعارات براقة، مصاغة بلغة قوية، وذات إيقاع مميز؛ جُمل مترادفة، أو ثلاث كلمات تحمل معاني معينة، أو عبارة ذات جرْس موسيقي، وهذه الشعارات تتضمن الحقائق المطلقة، والمقدس الديني أو القومي، وتحث على التضحية والمشاركة والولاء.. بالإضافة للشعارات تأتي الخطابة، وهي عادة ما تكون فصيحة وبليغة وإنشائية، وتعتمد عليها السلطة لتمرير سياساتها على العامة، وتثويرهم وتحريكهم أو إشغالهم في قضايا أخرى.
ولأن الخطابة والشعارات قائمة على التمني والتفكير الرغائبي الممزوج بالثأر، والوعود والتهديد، وبلغة عاطفية خالية من المضامين، بل تتعارض مع المنطق، ومنفصلة عن الواقع، وأقرب للخيال والمثالية.. في النهاية ستصطدم بالواقع، وسينكشف مدى خوائها وتخلفها.. الأمر الذي سيتسبب بالهزائم العسكرية، أو بالأزمات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية.. ولإبقاء المعنويات عالية سيلجأ الإعلام الموجه للكذب، أو صناعة رموز تعوّض الفشل والفراغ، وسيلجأ النظام للتهرب من الأزمات، وترحيل مشكلاته، أو تصديرها للخارج، من خلال تهم «المؤامرة الكونية»، والأعداء، والإمبريالية والصليبية.. وقد يلجأ للحروب الخارجية، أو محاربة من يسميهم أعداء الثورة، والطابور الخامس، والمنافقين، وعملاء الغرب.
ومع تفاقم الأزمات الداخلية، والفشل والفراغ يبدأ النظام بالاشتغال على الداخل، بإشغالهم بقضايا فرعية، وبالتركيز على التديّن الشكلي، وتأدية الطقوس الدينية والاجتماعية، والأعياد الوطنية، وبالاستفادة من تناقضات المجتمع، ومن نقاط ضعفه، وربما من خلال كرة القدم مثلاً، أو إشغالهم بلقمة الخبز، وتوفير الحد الأدنى من متطلبات الحياة، ومحاولة إيجاد «المواطن المستقر»، وتعميم ثقافة سلبية مفادها أنك طالما منشغل بحياتك الخاصة، ولا تنخرط في الهم العام، ولا تنتقد السلطة فأنت بأمان، وخلاف ذلك ستُجابه بكل قسوة.
وسرعان ما ستتضح حقيقة رؤية السلطة الحاكمة للشعب، فهم في نظرها مجرد دافعي ضرائب، وأصوات انتخابية (في حالات معينة وشكلانية)، أو حشود تخرج في التظاهرات المؤيدة، ولاستعراض قوة وهيبة التنظيم، أو السلطة الحاكمة.. أو هم أُضحيات وقرابين ووقود للحروب في سبيل تحقيق أهدافها، وستبرر السلطة ذلك عبر الشعارات والخطابات.
ولأن الجماهير تسعد بالكلام المعسول، وتطرب على الشعارات التي تمنيها بالنصر، وبالتهديدات التي تشفي غليلها، ما يلغي سمات التعقل والتبصر، فتتحول إلى جموع غاضبة ومنقادة، وتسمح للجهة الحاكمة باستغلالها، وهكذا تنشأ معسكرات العبيد تحت راية الحريّة التي وُعدوا بها، بل ويتم التضحية بهم في حروب عبثية باسم الدين والوطن والعقيدة.
هذا ما حصل حرفياً في أغلب الثورات (وربما جميعها)، تبدأ بقيادات نظيفة وصادقة، وأفراد وكوادر شجاعة، وبشعارات جميلة وبراقة.. ثم تتحول إلى نظم بوليسية وفاشية، مهووسة بالأمن والأجهزة الأمنية التي تعد على الناس أنفاسها. تماما كما حصل في مزرعة الحيوان لجورج أورويل.
ويستطيع القارئ تخيل أي نظام سياسي مرَّ على المنطقة في تاريخنا المعاصر، وسيجد أنه طبق ذلك حرفياً.. بما فيها تلك التي رفعت أجمل الشعارات.