في الذكرى 59 للانطلاقة هنالك ضرورة للمراجعة والتقييم لمواجهة المرحلة

مع بداية العام الجديد وفي ذكرى انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة أحيت حركة التحرير الوطني الفلسطيني "فتح" ومعها مكونات الثورة المعاصرة من مقاتلي ومناضلي وقوى منظمة التحرير الفلسطينية في الأول من العام الجديد الذكرى 59 لانطلاقتها المجيدة، وقضيتنا الفلسطينية تعيش مرحلة فارقة من تاريخ الصراع مع الاحتلال الاستعماري الإحلالي وسياساته الإجرامية التصفوية. الأمر الذي يتطلب منا في هذه الذكرى التأكيد على جوهر مرحلة التحرر الوطني التي ما زلنا نخوضها وبإعادة الاعتبار والحضور لمشروعنا الوطني التحرري الديمقراطي الهادف للتخلص من كل أشكال الاحتلال الاستيطاني والأبرتهايد وما له علاقة بإنهاء جريمة الحرب والإبادة العدوانية ومنع محاولات التهجير أولاً وتحقيق انتصار شعبنا رغم الآلام والتضحيات الكبيرة التي أصابتنا.

 تأتي ذكرى الانطلاقة هذه الأيام في وقت تتسارع أيضاً فيه الأحداث الدولية نحو إثارة بؤر توتر في أماكن مختلفة من هذا العالم، تسعى من خلالها الولايات المتحدة صاحبة التاريخ الطويل من الجرائم بحق الشعوب بمحاولات إعاقة التطور الجاري بأشكال النظام الدولي القائم، وتحديداً في شأن إعاقة أفول هيمنتها المتوحشة أمام صعود قوى أخرى خاصة في شأن الجغرافية السياسية لمنطقتنا ومحاولاتها بالشراكة مع إسرائيل بأنهاء ثقافة وفكر المقاومة وإعاقة الوصول إلى استعادة حقوق شعبنا الوطنية السياسية.

فالولايات المتحدة هي الراعي الأساس لمشروع الحركة الصهيونية العالمية من جهة، ومن جهة أخرى فهي الشريك والداعم المستمر رغم بعض المواقف اللفظية وخلافاتها الناشئة مع دولة الاحتلال المتعلق بمنهج أداء تنفيذ الاستراتيجية المشتركة، في تقديم كل أشكال المساندة السياسية والعسكرية والمالية بهدف الحفاظ على هذه الدولة وفق مبررات نشأتها. وفي الشراكة بالتطورات الجارية في شكل ومضمون الاحتلال الذي يعتمد التصعيد العدواني والاستعماري القائم والمُقبل ضد شعبنا وفق ما حددته دولة الاحتلال من رؤية في برنامج ائتلافها الحكومي بخصوص الحق الحصري لليهود في أرض فلسطين التاريخية التي "وعدهم الله بها"، وبكل ما يرتبط بهذا المفهوم العنصري لتنفيذه من خلال الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والترانسفير من التهجير القسري أو فرض ما يسموه هم "بالطوعي" ومحاولات ترتيباتهم الجارية مع بعض الدول لتنفيذ ذلك، لتعزيز الأبعاد الديموغرافية لمشروعهم الصهيوني التلمودي بنقاء يهودية دولتهم التوسعية الإحلالية، كما وضمان مكانة تفوق الفوقية اليهودية ما بين النهر والبحر وفي إطار إنفاذ الرؤية الاستراتيجية للولايات المتحدة والمتعلق منها بما سُمي "بالشرق الأوسط الجديد".

ففي ذكرى الانطلاقة وفي ظل تلك التطورات وغيرها حول العالم وبالإقليم وعلى مستوى التطورات الجارية بشأن صراعنا مع المُحتل والأوضاع الجارية بدولة الاحتلال، هنالك ما يستدعي اليوم إجراء تقييم للمسيرة الطويلة من الكفاح الوطني ومراجعات نقدية جريئة وشاملة للرؤية والبرامج والأداء والأدوات تأخذ هذه المتغيرات الدولية والإقليمية والمحلية الجارية بعين الاعتبار من أجل وضع رؤية وطنية تتسم بالواقعية السياسية لمسار "فتح" ومعها مكونات الحركة الوطنية الفلسطينية الأخرى التي أصاب البعض منها التراجع والترهل بفعل مؤثرات مختلفة، وبسبب عدم رغبة البعض تجديد الأدوات وفي إدراك هذه المتغيرات أو عدم إرادتهم أدراكها في مواجهة تلك التحديات التي باتت عاملاً مؤثرا في مسار كفاحنا الوطني نحو حقنا بتقرير المصير والوصول إلى الحرية والعودة والإستقلال الوطني.

 أمام هذه الوقائع وفي ذكرى الانطلاقة 59، فقد بات اليوم ضرورياً وقبل فوات الأوان الإدراك بأن التاريخ لا يقف عند نقطة أو مرحلة محددة من مساره المتغير بتسارع، فلا ثابت بالتاريخ سوى المتغير منه. وتاريخ حركات التحرر بالعالم والأحزاب الشمولية لاحقاً والتي لم تستطيع الاستمرار بتحقيق نجاحات وفق مسار بدايتها إلا بتغيير وتجديد ببرامجها وأدواتها بما يتفق والأهداف. أما تلك التي لم تتمكن من رؤية المتغيرات وضرورات تصويب أوضاعها وتجديد هياكلها فقد فقدت مواقعها .

اليوم هنالك حاجة ملحة بهدف الحفاظ على مكانة ودور منظمة التحرير وحركة "فتح" كعمود فقري لها ولحركتنا الوطنية الواسعة التي تحتاج الاستنهاض، لتقييم المرحلة السابقة بمنهج من الفكر النقدي وتحديداً منذ توقيع اتفاق أوسلو الذي لا يتسع المجال هنا لتقيمه الموضوعي بما حقق وبما أخفق في تحقيقه، فلم يعد أصلاً ذلك مجدياً خاصة بعد إعلان دولة الاحتلال التحلل منه، وإعادة شكل العلاقة مع الاحتلال على قاعدة الصراع والتناقض، إضافة إلى ما تتركه حرب الإبادة الجارية ومحاولات التهجير والاقتحامات والجرائم اليومية بكافة المدن والمخيمات من آثار ومؤثرات على مسيرة كفاحنا والأساليب المناسبة، وعلى نبض الشارع الذي أوضحته استطلاعات الرأي التي جرت مؤخراً والذي يتوجب اعتباره عند وضع الرؤى المطلوبة .

إن المرحلة الحالية بتعقيداتها تتطلب أولاً ترسيخ وحدة العمل الوطني الكفاحي في إطار منظمة التحرير ودخول كافة القوى بتنوعاتها الفكرية وفصائل العمل الوطني إلى مؤسساتها التي تحتاج إلى إعادة هيكلة تتناسب وظروف المرحلة وفق أسس سياسية ورؤية وأدوات متجددة خاصة من جيل الشباب، لتحقق المصلحة الوطنية لشعبنا في إطار من التوافق الوطني استنادا إلى استكمال ما حققته منظمة التحرير بعد بدء مسيرة الثورة بالوطن والشتات من مكانة تمثيلية عربية وأممية لشعبنا خاصة بالأمم المتحدة وبقراراتها ذات الصلة وبالمقدمة منها تأكيد حق شعبنا بتقرير المصير والاعتراف بالدولة كعضو مراقب، الأمر الذي يستوجب استكماله وتحقيق المزيد من الإنجازات الأممية. والبناء على حجم التضامن الدولي الواسع بكل عواصم العالم مع شعبنا ومقاومته الباسلة وإدراك الرأي العام العالمي لحقيقة دولة الإحتلال اليوم بعد تكشفها على حقيقة نظامها بوضوح أمام شعوب العالم والعديد من دوله سوى تلك المحكومة بعقلية الفكر الصهيوني العالمي أو عقدة الخوف من الاجحاف بأوضاع اليهود في أوروبا سابقا. كما وانهيار فرضيات إسرائيل بما ادعته على مدار عقود من أنها الضحية الوحيدة بالتاريخ وأنها الديمقراطية الوحيدة بالمنطقة باستنادها إلى فزاعة الهولوكوست ومعاداة السامية. وبالتالي البناء على ذلك النهوض من أجل أن يساهم ذلك بالدفع إلى تحريك المجتمع اليهودي بإسرائيل بعد ارتفاع كلفة الاحتلال بخسائرهم الكبيرة من أعداد القتلى والجرحى والمعاقين في غزة وعلى مناحي الاقتصاد والهجرة المعاكسة والعزلة الدولية التي يعيشونها اليوم، إضافة إلى تعمق أزمة الثقة بين دوائر صنع قراراتهم وبين الشارع وتلك الدوائر مجتمعة،  وتفاقم الخلافات وحالة الارتباك المتمثلة بالاتهامات المتبادلة بينهم منذ أمس، والتي دعت البعض منهم إلى اعتبار ما جرى في مجلس الحرب ومجلس الوزراء المصغر وصمة عار ودليل على خطورة هذه الحكومة .

فنتنياهو مذعور من انقلابٍ داخلي ضده، وجيشه مُرهق وجنوده يطلبون الإخلاء من جحيم غزة، وقوات النُخبة ضُربت في مقتل وتكبدت خسائر بالأرواح غير مسبوقة في تاريخهم العسكري العدواني. كما أن بايدن طلب صيغة لوقف الحرب دون أن يمرر ذلك بمجلس الامن، حتى ولو كانت لفظية لأسباب تتعلق بأوضاعه على أبواب الانتخابات الأمريكية وتصاعد المعارضة لسياساته ولمحاولة استرضاء حلفاء امريكيا بالمنطقة. ذلك نظراً لعدم القدرة على تحقيق الأهداف المعلنة من هذه الحرب العدوانية سوى من حجم خسائر شعبنا المؤلمة، أمام بسالة المقاومة التي تقاتل الاحتلال وجنود مرتزقة من بعض الدول، بإرادة وبضراوة غير مسبوقة تكبد الاحتلال خسائر كبيرة، الأمر الذي سيضعف ذلك الدور الوظيفي لإسرائيل.   كما أن جرائم الاحتلال باتت عبئاً عليه وسيفاً مُسْلطاً لمحاكمته والوقوف أمام شكوى الدولة الصديقة جنوب إفريقيا بمحكمة العدل الدولية  بتهم الإبادة الجماعية، التي ما زالت الولايات المتحدة تجزم بعدم حصولها وبأنها مستمرة في تقديم الدعم بهدف تمكينهم من الدفاع عن النفس لكن مع شرط التقليل من خسائر الأرواح بين المدنيين !!!

ولذا فان ‏إسرائيل تبدو على أبواب حربٍ داخلية، ستبدأ بإقالة نتنياهو ومحاكمته، ومحاسبة كبار القادة على أثر هزيمة 7 أكتوبر والفشل في الحرب العدوانية وأهدافها سوى من ارتكاب الفظائع التي أودت بحياة 30000 من شعبنا وإلى تدمير غزة بشكل كامل، وتضليل الرأي العام وانفلات المستوطنين، والتصعيد في الضفة بما فيها القدس أمام تصدي شباب المقاومة بإمكانياتهم المتواضعة للاقتحامات اليومية للمدن والقرى والمخيمات. هذا إلى جانب ما يجري على الحدود مع لبنان والمحاولات الإسرائيلية لفتح جبهة واسعة هنالك تخدم رؤيتهم بشأن المنطقة بإنهاء دور وثقافة المقاومة، ولذلك كان الاغتيال الجبان للقائد الوحدوي الشيخ صالح العاروري على الأراضي اللبنانية، كما كانت دائما جرائم الاغتيال التي نفذتها إسرائيل بحق قادة الثورة والمقاومة من فصائل مختلفة في أوقات سابقة.

59 عاماً من عُمر "فتح" ومن عُمر جيلنا وعُمر حركتنا الوطنية الفلسطينية ولا زالت ثورتنا المعاصرة تمضي من أجل استكمال مرحلة تحررنا الوطني التي لم ننجزها بعد. وفي هذا الأمر يكمُن حجر الزاوية الذي يستدعي الإهتمام بتراث الحركة والتطورات الجارية والعمل الموحد والوضوح في مواجهة الضغوطات من أطراف مختلفة للتوقف عن مجاراة سراب الأفكار السياسية الأمريكية باختلاف إداراتها والتي سعت وتسعى لإحباط إقامة الدولة الفلسطينية ذات السيادة وعاصمتها القدس ومحاصرة القرار الفلسطيني المستقل، ومحاولاتها الابقاء أن استطاعت على استدامة الاحتلال بمسميات مختلفة. كما وهنالك ضرورة لمجابهة مراكز قوى اصبحت تتوافق مع أجندات الحلول الاقتصادية والأمنية والتي لن تحقق لنا الأبعاد الحقوقية السياسية التاريخية والقانونية المرتبطة بضرورة إنهاء الاحتلال الاستيطاني كاملاً وأولاً الجاثم على أرضنا وصدورنا والظلم التاريخي المرتبط به منذ 75 عاما بتواطؤ من الغرب لاعتبارات مختلفة.

لقد كانت "فتح" التي أعادت إلى جانب القوى الاخرى بعد انطلاقتهم روح الهوية الوطنية السياسية. فكانت هي الفكرة التي يتوجب الاَن بقاؤها الأداة في التعبير عن روح الشعب الفلسطيني في إطار وحدته وتعدديته الفكرية في انطلاقته المتجددة والمستمرة نحو حريته واستقلاله وتقدمه الاجتماعي، والتي يجب أن تبقى موحدة رغم إمكانية تباين الآراء فيها، لكن على أساس التمسك برؤية من الوضوح السياسي الكفاحي في إطار من المنهج الديمقراطي في الحياة الداخلية للحركة التي يتوجب تعزيزها كما وفي مؤسسات دولة فلسطين بعقد انتخاباتها التشريعية والرئاسية، وبضرورة عدم تكرار تجربة الأحزاب أو الحركات الشمولية بالهيمنة على مفاصل الدولة أو النظام السياسي وإتاحة المجال واسعاً أمام التعددية الفكرية والمهنية بالمواقع الرسمية بما يعكس تنوع مجتمعنا والكفاءات لدى شعبنا واتساع خبرات الشباب فيه.

وهي التي مزجت بين المقاومة والعمل السياسي والجماهيري الشعبي بكافة أشكاله والتي يجب أن تستمر كذلك من خلال الحفاظ على شعبنا وحمايته ودعم مقاومته حتى زوال الاحتلال إلى جانب كافة القوى الأخرى والمستقلين والمجتمع المدني، وهي أي "فتح" التي أكدت على مقولة أن الدين لله وأن الوطن للجميع، دون القبول بجعل الدين هوية سياسية رغم احترام مكانة منابعه المسيحية والإسلامية، فكانت هي الحركة الجامعة للفكر الوطني في وطن لا نملك سواه.

في الذكرى الـ 59 أقول لأجيال "فتح " وأبناء شعبنا كافة، حركتكم صنعت حضناً وطنياَ جامعاً ومجداً، فحافظوا عليه وحافظوا عليها واستمروا في حمل أمانة الفكرة ووطنية جوهرها وإنسانية عمقها.

كلمات مفتاحية::
Loading...