إسرائيل بعد الضربة... من العنجهية" للحكمة"

عشنا لنرى إسرائيل تجمع وتطرح لكنها تفكر وتحسب ألف مرة قبل أن تضرب، عكس إسرائيل التي نعرف والتي كانت تندفع بلا حدود وتضرب بلا حساب، من يتابع النقاشات الدائرة في إسرائيل منذ الضربة الإيرانية يدرك أن هناك شيئاً مختلفاً غابت فيه المصطلحات العنجهية التي اعتدنا سماعها، على نمط الضربة الاستباقية والضربة الانتقامية، لتحل محلها مصطلحات لا تشبه إسرائيل مثل رد منضبط أو رد حكيم ... إسرائيل أصبحت حكيمة ...!

للقوة مفاعيلها في سيكولوجيا الصراع، فالرد الإيراني كان يعكس قدراً من استعراض القوة، حيث إبلاغ جميع الأطراف بالضربة وكأنها تقول لإسرائيل استعدوا، لكنها أرسلت الطائرات المسيّرة غطاء للصواريخ وهي الطائرات التي يمكن اكتشافها لحاجتها لساعات للوصول، حتى لا تعطي اسرائيل والولايات المتحدة متعة الاكتشاف واستعراض التكنولوجيا أو الحديث عن معلومات استخبارية وتعاون معلوماتي.
حين كانت اسرائيل تتعرض لهجوم لم يكن يأخذ الأمر ساعات حتى تتحرك القوة الكاسحة بكل ما تملك من عتاد، وتسبق أي تفكير، لكن هذه المرة فالحكمة مصطلح جديد اجترحته المخيلة الإسرائيلية المأزومة، لعدم قدرتها على الاعتراف بواقع يتغير واستمرار ممارسة الإنكار، كيف للدولة التي لم تعرف غير القوة وأن كل خصومها مردوعون أن يجرؤ طرف على ضربها في العمق ولا ترد بالسرعة الكاسحة التي نعرفها؟
لن تعترف اسرائيل بأن الإقليم يتغير وأنها تقف عند عتبة القديم، ولن تعترف أن مجتمعها يصيبه الوهن والتراجع وأن كل المكونات كجزئيات ناتجة عنه هي تعبير عن الكليات، وقد كان التقدير الذي قدمته الأجهزة الأمنية باستسهال قصف القنصلية الإيرانية في دمشق مسكوناً بعقل القوة القديم الذي لم يقرأ طبيعة الانزياحات في المنطقة والعالم التي طالت الولايات المتحدة، وصعود قوى دولية كبرى منافسة تعزز علاقاتها مع طهران.
روسيا التي نقلت لها ايران صواريخ بالستية وطائرات مسيّرة ساهمت في حربها مع أوكرانيا من الطبيعي أن تشكل عامل قوة واسناد في حروب ايران وتزويدها بالتكنولوجيا، والصين التي وقعت اتفاقاً تاريخياً وكلا الدولتين تزاحمان الولايات المتحدة وتدفعان لإغراقها واشغالها في صراع الشرق الأوسط، وهذا يتطلب دعم طهران، وإن اشتعلت بينها وبين إسرائيل فإن مصلحة الدولتين تتطلب معركة طويلة تشترك فيها الولايات المتحدة وهذا لن يتحقق دون دعم طهران.
هذا ما يجعل حسابات واشنطن لا تقل «حكمة» عن حسابات تل أبيب، وهي تناشد اسرائيل بعدم الرد إدراكاً منها أن الحريق الذي سيشتعل سيطال كل العواصم، مع معرفتها بالقوة الإيرانية ذات الخبرة في صناعة الصواريخ التي وصلت قدرتها للعمل بالوقود الصلب، وكذلك المسيّرات، ناهيك عن حسابات الشمال وحزب الله الذي كثف ضرباته في الأسبوع الأخير بشكل لافت.
منذ سنوات تتحين اسرائيل الفرصة للانقضاض على ايران، وتحلم بها مسلحةً بتحالف دولي قوي، وعندما جاءت الفرصة اكتشفت أن الأمر أكبر من خيالاتها بكثير وأكثر تعقيداً مما تحلم، فالقرار القديم باستعداء ايران كان وليد زمن ما بموازينه العسكرية وتحالفاته، لتكتشف أن الفرصة جاءت في زمن آخر، فقد تأخرت كثيراً، وكما قال أحد الفلاسفة أنت لا تنزل النهر مرتين، ففي المرة الثانية تكون المياه والطمي التي لامستها قدماك قد تغيرا.
موشي دافيدوفيتش رئيس منتدى خط المواجهة يقول «اسرائيل فقدت شمالها» هكذا هو الأمر، أما الجنرال المجرب اسحق بريك فقد كتب في معاريف قائلاً «دولة اسرائيل مثل سفينة تبحر في أعالي البحار أثناء عاصفة، ففي القتال الإقليمي سيكون مئات الهجمات كل يوم على اسرائيل، سيتم اطلاق آلاف الصواريخ والطائرات بدون طيار في وقت واحد من عدة دول معادية، لكن إسرائيل لن يكون لديها قدرة دفاعية ولا قدرة على اعتراض، كمية الذخائر الموجودة لديها تكفي ثلاثة أسابيع».
أرييه درعي رئيس حركة شاس الدينية الذي يجيء حاملاً فتوى الحاخامات الذين يريدون حرق العرب، لكنهم هذه المرة يتخلون عن الأيديولوجيا وهذيانات النصر الرباني، وحماية الشعب المختار لصالح واقعية مذعورة بأن اسرائيل يجب ألا تقوم بالرد على إيران. كلهم تحولوا إلى عقلاء، هكذا تفعل موازين القوة التي تقوم بإبادة في غزة الضعيفة دون حسابات، لكنها تقف مندهشة من تعقيد المسألة عندما يتعلق الأمر بجبهات أخرى.
لم تستوعب اسرائيل بعد أنَّ عليها أن تعد للمائة قبل أن تضرب، هذا جديد عليها، ففي كل حروبها كان السلاح يسبق السياسة بمسافات كبيرة، تباغت متى تريد وتضرب مَن وأين ومتى شاءت، لكن الحسابات هذه المرة أكبر منها، فهي تتعلق بمصالح كونية، غابت تلك المصالح عن غزة التي لو أبيد كل سكانها لن تتضرر، لكن الحرب الإقليمية ستمس بأوروبا والولايات المتحدة، وهؤلاء عند مصالحهم لا يعنيهم لا قدرة ردع اسرائيل ولا اسرائيل نفسها، لذا سارعت الولايات المتحدة لإرسال رسالتها لتل أبيب «نحن ندافع عنكم ولكن لا نهاجم عنكم أو معكم».
أن تضرب اسرائيل إيران في العمق فتكلفة ذلك عالية حسب ما رأيناه في الضربة الإيرانية التي يمكن أن ترد بقوة أكبر ومع الاستعراض المعلن والتمويه المعلن بالمسيّرات والقدرة الصاروخية سيكون الثمن كبيراً، وإذا لم تضرب فالثمن أكثر فداحة من قوة الردع، وهي رأس المال الذي كثر الحديث عن تآكله، منذ ما قبل الحرب على غزة كانت تبحث عن وسائل استعادته لتكتشف أن غرور القوة في التقدير يجعلها تدفع جزءاً كبيراً منه لتتلقى صواريخ في عمقها وأن الرد ليس سهلاً، وحين جاءت فرصة تصفية الحساب الكبير اكتشفت أن المزاد كان قد أُغلق وأن حسابات العالم أصبحت مختلفة.
أسوأ ما في الأمر هو مقايضة طهران برفح، لكن نتنياهو بقصور القراءة وعمى القوة ربما يفكر انتظار المخلّص ترامب لحل التهديد الإيراني، قبل أن يكتشف ترامب نفسه أن ماء النهر والطمي قد تغير، حينها ستكون الحكمة هي ما سيدير إسرائيل .. حكمة الضعف.

 

Loading...