ضغط اللحظة الراهنة وفكرة الدولة الفلسطينية


بعد فقدان الأمل في إمكان إقامة دولة فلسطينية، ونعي أطراف إسرائيلية وعربية ودولية، وفلسطينية، أيضاً، لتلك الفكرة، إذا بها تطفو على رأس أجندة الأطراف الدوليين والإقليميين باعتبارها المفتاح لحل للقضية الفلسطينية، ولأزمة إسرائيل الداخلية والخارجية، بعد أن أثبتت الحرب في غزة، أو نكبة غزة، استعصاء أي حل أمني لقضية الفلسطينيين، من منظور إسرائيل القائم على الردع، لفرض احتلالها على الفلسطينيين، وهيمنتها في الإقليم، بواسطة القوة، وبالاعتماد على ضمان الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة، لأمنها واستقرارها وتفوقها.
وكان جهاد الزين لفت إلى ذلك في مقالتين متميزتين له في "النهار"، ("لماذا الدولة الفلسطينية آتية حتماً"، 16/4/2024 و"قيام الدولة الفلسطينية يمنع انهيار كل دول المنطقة، 19/3")، ومع تأييد معظم الحيثيات التي طرحها، إلّا إنّ الأمر يقتضي بعض التوضيحات.
 
بداية، فإنّ طرح الدول الغربية، وضمنها الولايات المتحدة، إقامة دولة فلسطينية، ليست منزوعة السلاح، فقط، وهذا طبيعي في الظروف والمعطيات السائدة، وإنما منزوعة السيادة أيضاً، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ومن دون سلطة على المعابر، وعلى أساس حدود يتفق عليها الطرفان المعنيان، وليس بناءً على مرجعيات دولية، وتكون تلك الدولة جزءاً من الإطار الإقليمي الجديد، الذي تتواجد فيه إسرائيل، في "الشرق الأوسط الجديد". وهذا يعني فقط تغيير اسم السلطة الفلسطينية إلى دولة فلسطين، وترقية الاعتراف بها في الأمم المتحدة من دولة عضو مراقب، إلى دولة بعضوية كاملة؛ علماً أنّ الظرف الراهن لا يتيح أكثر من ذلك.
 
في ذلك الإطار، مفروض من هذه الدولة ليس فقط الاعتراف بوجود إسرائيل، والتعايش معها، من كل النواحي، وإنما أن تعترف بحقها بالوجود، أيضاً، بما ينطوي عليه ذلك الاعتراف بسرديتها التاريخية، وهي سردية دينية وأسطورية، ما يعني تخلي الفلسطينيين عن السردية التاريخية المتأسّسة على النكبة وإقامة إسرائيل على حساب الشعب الفلسطيني وولادة مشكلة اللاجئين (1948)، علماً انّ تلك هي أساس الهوية الوطنية الجامعة للفلسطينيين، وبدلاً من ذلك الانطلاق من سردية الاحتلال الذي بدأ عام 1967؛ والتي باتت معتمدة في الأدبيات الرسمية للقيادة الفلسطينية، ما سيكون له مضاعفات سلبية على رؤية الفلسطينيين لذاتهم.
 
الوضع الدولي لا يكفل كبح مفاعيل الانقسام في إسرائيل، حول ذلك، بمعارضة قوى اليمين القومي والديني المتطرف، التي تعطي أولوية للاستيطان في كل شبر من فلسطين، بين النهر والبحر، والتي ترى في أية كيانية فلسطينية، نوعاً من تآكل إسرائيل كدولة يهودية، وكتهديد مستقبلي لها، والذي يعتبر أنّ إسرائيل مع الضفة والجولان أقوى وأفضل لإسرائيل من دونهما، وأنّ التطبيع مع هذه الدولة العربية أو تلك ليس أهم من ذلك، وإنّه يمكن تحقيق التطبيع، أو فرضه، مع احتفاظ إسرائيل بالأراضي من النهر إلى البحر، وهيمنتها في المنطقة.
 
أما التيار الإسرائيلي الذي يتقبّل إقامة كيان للفلسطينيين، وهو الذي سار في اتفاق أوسلو، فيرى في إقامة دولة فلسطينية، بالمعايير المذكورة، حلاً لأزمات إسرائيل وفقاً للآتي:
 
1- التخلص مما يعتبره الخطر الديموغرافي الفلسطيني، على طابع إسرائيل كدولة يهودية، وعلى نظامها كدولة ديموقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود)، فالأولوية عنده ليست لتكامل الأرض وإنما لوحدة الشعب (اليهودي)، وأنّ الهيمنة على الفلسطينيين في الضفة والقطاع، من دون حقوق مواطنة، يضع إسرائيل بمصاف الدولة العنصرية.
 
2ـ هذا التيار يرى أنّ صمود الفلسطينيين في أرضهم ومقاومتهم المستمرة للاحتلال، بمختلف الأشكال، يثقل على إسرائيل أمنياً، وسياسياً، وأخلاقياً، واقتصادياً، ويشوّه صورتها الخارجية ويشكّك بصدقية نظامها الديموقراطي، لا سيما وأنّها لم تنجح طوال العقود الماضية في شطب الشعب الفلسطيني أو تغييبه، وظلت مشكلتا الأراضي الفلسطينية المحتلة والشعب الفلسطيني فيها تشكّلان مأزقاً كبيراً استعصى على إسرائيل حله.
 
3ـ لم يعد قيام دولة فلسطينية يشكّل خطراً وجودياً على إسرائيل، بعد التطور السياسي والاقتصادي والمجتمعي الذي بلغته، مع هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي والإقليمي وضمانها أمن إسرائيل وتفوقها في المنطقة، ومع أفول البعد العربي للصراع ضدّ إسرائيل.
 
4ـ تحوّل النظام العربي الرسمي من مستوى الصراع على الوجود مع إسرائيل، أي من سردية النكبة (1948)، إلى مستوى الصراع على شكل هذا الوجود، أي سردية الاحتلال (في العام 1967)، والاتجاه نحو حل هذا الصراع بوسائل المفاوضات مع الميل المتزايد نحو إقامة علاقات سلمية وتعاونية، ثنائية وإقليمية، مع إسرائيل، في مختلف المجالات.
 
5ـ في عصر العولمة، ومركزية الاقتصاد والتكنولوجيا والعلوم في تحديد قوة الدول، بات المجال السيادي للدولة الوطنية مسألة نسبية، وباتت قوة الدول لا تقاس بالعناصر التقليدية: مساحة الدولة، عدد سكانها، قوتها العسكرية، بقدر ما انّها تُقاس بقوتها الاقتصادية والتكنولوجية وتقدّمها العلمي وإمكاناتها المالية والأسواق التي تصل إليها، وهذا هو وضع إسرائيل التي تتمتع بعلاقات متميزة مع الدول الغربية، ومع روسيا والصين والهند أيضاً.
 
6ـ أدّت حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على غزة إلى حصول تحولات كبيرة في الرأي العام العالمي لصالح الشعب الفلسطيني، بما في ذلك في أوساط يهودية في الغرب، وهذا جعل إسرائيل بمثابة عبء سياسي وأمني واقتصادي واخلاقي على الدول الغربية، وعلى اليهود فيها أيضاً، الأمر الذي دفع حتى الولايات المتحدة (مع الدول الغربية) للتلويح بحل الدولة الفلسطينية، لإنقاذ إسرائيل رغم أنفها.
 
القصد أنّ قابلية تيارات إسرائيلية لقيام دولة فلسطينية ليس وليد قناعة لديها بالظلم الواقع على الفلسطينيين أو محبة لهم دبّت فجأة في قلبها، وإنما هي نتاج ما تقدّم ذكره، وضمن ذلك محاولة لتكييف إسرائيل مع التطورات في العالم، ومع الدول الضامنة لها، مع ذلك، فإنّ الأمر مرهون بمدى حسم الولايات المتحدة لهذا الأمر، وبمآل التجاذبات بين التيارات الإسرائيلية ذاتها، إذ للأسف لا يوجد في الوضع الفلسطيني أو العربي ما يضغط لذلك.
 
لذا، يُخشى أنّ ضغط اللحظة الراهنة، أي لحظة حرب الإبادة الإسرائيلية ضدّ غزة، هو الذي يدفع في هذا الاتجاه، وهذا وحده لا يكفي، ولم يثبت في الاختبارات السابقة، ما يضعنا إزاء مراهنة ليست في محلها، علماً أنّ القيادة الفلسطينية كانت قاربت ذلك الحل منذ 50 عاماً.

 

Loading...