دورنا في ظل عجز أمريكا وأزمة إسرائيل في مواجهة المعادلات الجديدة.

في وسط ما يجري من تصعيد لجرائم الإبادة بحق شعبنا في كل مكان بفلسطين، كان آخرها مجزرة مخيم نور شمس قبل أيام واستمرار ذلك في قطاع غزة.

واستمرار نتنياهو وشركاءه السياسيين في تطوير رؤية عنصرية تستخف بقيمة حياة شعبنا الفلسطيني تشير لوجود خيط مباشر بين الاعتداءات على حوارة في شباط 2023 وبين الكارثة الإنسانية الحالية داخل غزة، التي وصفها أحد الكتاب الإسرائيليين بقوله "إن الذين اعتادوا على إمكانية حرق بلدة فلسطينية انتقاماً لقتل إسرائيليين اثنين يرون إمكانية تدمير كل القطاع انتقاماً للسابع من أكتوبر أمراً مفروغاً منه ".

وأمام هذا الواقع الإستعماري العنصري فقد جاء الفيتو الأمريكي بهذا الوقت من وجهة نظري بشكل طبيعي غير مفاجئ سنداً لسياسات الولايات المتحدة بإداراتها المتعاقبة في معاداة حقوق شعبنا الفلسطيني ومنع تنفيذ حقه في تقرير المصير، واستكمالا لسياسات شراكتها السياسية والعسكرية وقيمها العنصرية مع إسرائيل، كان آخرها إقرار حزمة المساعدات بقانون الأمن القومي لكل من إسرائيل وأوكرانيا التي ستؤدي إلى مزيداً من توسع الصراع والحروب بالمنطقتين.

إن الحروب والنزاعات العسكرية ليست مسرحيات كم يعتقد البعض، رغم أن هذا الاعتقاد هو حق لأصحابه الذين ربما لا يدركون أهمية التحولات السياسية الإستراتيجية بالعالم ودور كل أطراف الإقليم. فقد غيرت عملية 7 أكتوبر باعتبارها شكلاً من اشكال المقاومة المستحقة لشعبنا وفق القوانين والأعراف الدولية في قواعد مواجهة استمرار الاحتلال والحصار وألحقت به الهزيمة بفعل تطور لحظتها المفاجئ والإرادة على القتال، رغم بعض الملاحظات التي سيكشف عنها التاريخ والأسئلة التي سيجيب عليها لاحقاً بما يتعلق بضرورة التكامل بين المقاومة وتجنيب شعبنا الضحايا الكبيرة والمؤلمة باعتباره حاضنة الكفاح الوطني.

إن ما يحدث من مقاومة واشتباكات على امتداد  الحدود الشمالية هو حراك ما يطلق عليه بأطراف محور المقاومة، يستهدف تحقيق نتائج سياسية وتغيير معادلات وأوضاع قائمة وتكبيد الاحتلال أكبر قدر من الخسائر في مسار تحقيق مصالح دول وأطراف بإطار معادلات توازن الردع في الحالة الجارية التي علينا معرفة مسارها واستفادة كل دولة وطرف منها، وبالتالي تحديد رؤيتنا الفلسطينية وفق مصالحنا الوطنية أولاً وأخيراً وبما يتبع من اتخاذ قرارات تعتمد برامج وأدوات تستند إلى ضرورة وحدة الكل الفلسطيني في إطار المنظمة وتفعيل دورها وأطرها والاقتراب من جماهير شعبنا بكل فئاته وحمايته لتحقيق التحرر الوطني والديمقراطي .

فما حدث بين إيران ودولة الاحتلال قبل أيام يندرج ضمن محاولات تغير تلك المعادلات بالمنطقة، من جهة لإثبات القدرة في مواجهة نظام استعماري يتصرف فوق القانون وينتهك كل الأعراف الدولية وحقوق شعبنا ويمارس معادلة تفوق قوة الردع، ومن جهة أخرى لمحاولة استثمار ذلك بتحقيق مصالح إيران الوطنية التي تراها هي من وجهة نظرهم كدولة ذات سيادة وفي معادلة العلاقة مع الولايات المتحدة وأوروبا وتحديداً في شأن الاتفاق حول الملف النووي التي ترغب في تحقيق مزيداً من المكاسب لها فيه.

فتلك العملية العسكرية والتي اعترف جيش الاحتلال أنها أصابت موقعين هامين شكلت تطور هام بالصراع، فقد أظهرت إيران قدراتها الصاروخية التي اعترضتها طائرات وصواريخ الناتو ودول إقليمية أخرى ولم تَجُر الولايات المتحدة إلى الصراع المباشر. وهي بالتأكيد قد حصلت لربما ضمن توافقات غير مباشرة على عدد من التنازلات الأمريكية، وشكلت تأكيداً أن أحد أوجه الصراع بمنطقة الشرق الأوسط هو ساحة بين الطرفين، الذي سيتطور به موقع إيران بشكل هام لتغير معادلة توازن الردع، رغم أن إنهاء صراعنا مع الاحتلال بما يحقق ثوابتنا الوطنية هو الاساس لأي شكل من الاستقرار بالمنطقة وللمعادلات الجديدة.

تطور قد يساهم بتحريك بعض الأحجار في رقعة شطرنج المنطقة التي أصابها الركود بنتيجة غياب المشروع العربي في ظل وجود مشاريع أخرى، كما وعجز النظام الرسمي العربي من حماية شعبنا ووقف حرب الإبادة الجارية لدرجة عدم القدرة على فرض إدخال المساعدات عبر رفح ومواجهة الموقف الإسرائيلي في منعها.

وبرغم أن الحروب تشكل جحيما على الشعوب، لكن أحياناً تكون إحدى الخيارات في مسار التاريخ وإلا سيبقى التاريخ السياسي يُراوح مكانه في معاندة طبيعة مُتغيرات الأشياء. فلا شيء يبقى على حاله في إطار شكل الحركة المستمرة له ذاتياً ونسبياً في العلاقة مع المحيط المجاور والسياسات الأخرى. وهنا تكمن محاولة الاستفادة من تلك الحركة المستمرة من تغيرات كمية ستؤدي حتما لتغير نوعي في شكل تلك العلاقات والمعادلات التي قد تفضي إلى البحث عن مسار سياسي لحل قضايا الصراع.

 فبالرغم مما نختلف عليه مع رؤية النظام الإيراني في قضايا عدة بمنطقتنا تتعلق برؤيتهم القومية وأطماعهم والتدخل في شؤون عدد من الدول وإقامة بؤر وكالات فيها. إلا أن إيران لا يمكن رؤيتها وفق هذا الجانب ومن هذه الزاوية فقط أو من خلال نظامها القائم وفق رؤيتها الدينية وحكم الملالي فيها، لكن من خلال زوايا أخرى تتعلق بدورها الإقليمي المتنامي ومتغيرات علاقاتها مع عدد من الدول العربية في إطار المصالحة التي تمت بجهود صينية من جانب، واستمرار قضايا خلافاتها مع إسرائيل، كما وتطور مكانتها الدولية في إطار مجموعة "البريكس" وعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين في المواجهة المفترضة لسياسات الهيمنة الأمريكية الداعم الأساس للاحتلال، وما أصبحت تشكله من دور كلاعب إقليمي له قدرات عسكرية وحتى على مستوى العلاقات الدولية كدولة لشعب أصيل له جذوره التاريخية والثقافية على مدار عصور، في نقيض مع ما يُسمى بالشعب اليهودي المُبتكر منذ بدايات الاستيطان الاستعماري لفلسطين. ولهذا لا يجوز استبدال مكانة دولة الاحتلال الإسرائيلي بمكانة إيران كعدو للشعوب العربية والفلسطينيين وفق ما يحاول الغرب وإسرائيل إشاعته في عقول شعوبنا العربية.

بالوقت الحاضر وضمن هذه المتغيرات يبدو أن الولايات المتحدة غير معنية الآن بهذا التصعيد الذي يدفع به نتنياهو بشكل يومي، بسبب أن لديها العديد من الأولويات الأخرى اليوم والمتمثلة في أوضاع أوروبا الشرقية وخاصة بما له علاقة بحربها بالوكالة بأوكرانيا وخوفها الشديد من خيارات الهزيمة أمام روسيا، الأمر الذي قد يغير وجه أوروبا، إضافة إلى بؤر التوتر في تايوان وبحر الصين، وأهمية أوضاعها الداخلية المرتبطة بالانتخابات الرئاسية القادمة من جانب، ومن جانب آخر فإن اتساع رقعة التصعيد بالمنطقة قد يحول دون تمكن الولايات المتحدة من تنفيذ رؤيتها حول مشروع الشرق الأوسط الجديد، إلا إذا أقتضى تنفيذه إشعال حروب المنطقة وانتظار ما يترتب من نتائج لاحقة وفق سياسات نتنياهو والصقور الأمريكان، ولهذا السيناريو حديث آخر .

وفي ظل الرغبة الأمريكية للتخلص من نتنياهو واستبداله بمن يُسهل تنفيذ مشروعهم المذكور الذي يضمن استمرار هيمنة الولايات المتحدة على مفاصل أنظمة دول المنطقة وموارد منطقتنا اقتصادياً وعسكرياً وسياسياً. فإن نتنياهو وآخرين من قادة الاحتلال يخططون لكيفية تصعيد الاحتكاك مع إيران ولبنان لِجر الولايات المتحدة والناتو إلى حرب واسعة بالمنطقة دون إثارة دورة من الضربات الانتقامية التي يمكن أن تتصاعد نحو صراع أوسع، نظراً لرؤيتهم الخاصة حول الشرق الأوسط الذي يتوجب بقاء إسرائيل فيه صاحبة القول الفصل.

وترفض طهران جميع النداءات الدولية لوقف ردودها وتغير معادلات الردع، قائلة إن مثل هذه الجهود يجب أن توجه بدلاً من ذلك إلى إسرائيل التي تمارس كدولة احتلال عنجهية قوة اليد الطولى دون حساب وعقاب.

لكن نتنياهو لن يمضي قدما في العمل العسكري دون الدعم الضمني من الولايات المتحدة، والذي يزعمون أنه يضمن الحزم الإسرائيلي في اجتياح رفح، لكن مع بعض التباينات الشكلية المتعلقة بوجود العدد الكبير من شعبنا فيها.

ونتيجة لذلك ولتركيز الجهود نحو رفح، فقد وافق نتنياهو على "رد حكيم" في أصفهان يتجنب إثارة حرب إقليمية واسعة يشارك فيها حلفاء إيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن، الذين لديهم علاقات عضوية مع إيران وقد تحدوا تاريخياً التفوق العسكري الإسرائيلي.

كما ولمحاولة إنقاذ وضعه غير المستقر وسط ضغوط داخلية متزايدة للرد ودعوات إلى اجتياح رفح وذلك في معاندة   المجتمع الدولي كي يضمن استمرار مستقبله السياسي.

ذلك بالرغم من ما يواجهه من ضغوط متضاربة من حكومته والائتلاف الذي يبقيه في السلطة، الأمر الذي يؤدي إلى تفاقم معضلة نتنياهو السياسية التي يساهم بإثارتها حراك أهالي الأسرى الإسرائيليين وامتدادات الخلاف الناشئ سابقاً حول الانقلاب القضائي واستقالات قادة كبار من الجيش وعدم القدرة في تحقيق الأهداف المعلنة في غزة، رغم أنها أصبحت مكاناً غير قابل للعيش بفعل التدمير وبتضحيات جسام من شعبنا، كما ومن سقوط قتلى وجرحى في صفوف جيش الاحتلال لم يعرفون مثيلا له منذ 1948، وإطلاق التحذيرات المتلخصة في أن نتنياهو يقود إسرائيل إلى الخراب حتى تنهار حكومته، في وقت تعصف أزمة حقيقة بإسرائيل قد ترتقي إلى شكل وجودي إذا استمرت الأحوال على ما عليها الآن من حيث فشل نظريتهم حول اليوم التالي في غزة وغياب البدائل والانهيارات الإقتصادية والعزلة الدولية المتصاعدة بشكل غير مسبوق إضافة للتحديات الأخرى التي أشرت لها .

على هذه الخلفية من الضغوط المحلية والدولية، يبحر نتنياهو في مشهد معقد، باحثاً عن القرار الأمثل للحفاظ على السلطة وتجنب المزالق التي تصاعدت منذ 7 أكتوبر، والتي زادتها الضربة الإيرانية من جهة وضع نتنياهو المحفوف بالمخاطر.

وعلى الجبهة الدولية، فبينما تتفق الولايات المتحدة مع إسرائيل على أن إيران تشكل تهديداً كبيراً لمصالحها وهيمنتها في الشرق الأوسط، فهناك اختلاف في النهج الذي يتعين اتباعه. وتتلخص الإستراتيجية الأمريكية المفضلة في إدارة التحدي الإيراني "بدقة" من خلال العقوبات والعمليات الاستخباراتية وربما إثارة الاضطرابات الداخلية في إيران بدلاً من الانخراط في مواجهة عسكرية مباشرة.

ويعكس هذا النهج الدقيق استراتيجية أوسع نطاقاً لقياس ردود إيران المحتملة بعناية بينما ينتظر المجتمع الدولي الخطوة التالية لطهران في أعقاب الرد الإسرائيلي في أصفهان.

ولحين ذلك فانه من الواضح بأن نتنياهو في محاولة لاستدامة هذا الوضع الأمني سيسعى إلى دخول المرحلة الثالثة من عدوان حرب الإبادة في غزة والمتمثل باستهداف رفح وفق تكتيكات عسكرية جديدة قد ترتبط بإعادة الحديث عن صفقة جديدة مع المقاومة قد تقلل من وجهة نظره حجم الاعتراض الدولي على ذلك أو أن يبيع هذا الأجراء الجديد من أشكال الحرب والسياسة للولايات المتحدة لتجاوز الخلافات الظاهرية وتحييد مصر التي تريد إلغاء كامل للعملية العسكرية على رفح، بينما أمريكا تريد تقنينها وبرمجتها وربط ذلك بإيجاد حلٍ لموضوع المدنيين.

 كما ومن وجهة نظره فإن الوصول إلى صفقة لا تلبي طموحه قد يخفف من ردود المقاومة اللبنانية العسكرية على شمال فلسطين التي أطلقت حتى اللحظة 4000 صاروخ وأوقعت العديد من القتلى وأجبرت المستوطنين بشمال فلسطين على النزوح كما في غلاف غزة.

السؤال الآن كيف ستتأثر السياسة الدولية والإقليمية بهذه المتغيرات وكيف ستنعكس علينا نحن الشعب الفلسطيني وعلى قضيتنا الوطنية؟

اليوم فلسطين اصبحت في كل مدينة وشارع وجامعة حول العالم تحديداً في أمريكا معقل الغرب الإستعماري، هذا الأمر الكبير والهام الذي تمثله القوى التقدمية بما فيها من قوى يهودية وحركة الطلبة المتصاعدة لأول مرة منذ حرب فيتنام، قد دفع الرئيس بايدن بتشويه سمعة المتظاهرين في حرم الجامعات في جميع أنحاء البلاد المعارضين للمذبحة الإسرائيلية للفلسطينيين في غزة ووصفهم بأنهم "معاديون للسامية". لكنها أصبحت كرة من الثلج تتدحرج وتتسع بكل اصقاع الارض ترتبط ايضا مع الازمات الاجتماعية الإقتصادية الناتجة عن فشل الحلول الراسمالية البشعة لقضايا المجتمعات كما ومظاهر العنصرية فيها ضد الاقليات والملونين والمهاجرين.

هذه مرحلة يتوجب التواصل معها بكافة جوانبها من طرفنا وتقديم ما يلزم لاستمرارها لأحداث التحولات المطلوبة ومدى تاثيرها على مكونات الرأي العام العالمي والإعلام بالغرب.

 كما ان استمرار التعاطي مع سراب افكار أدارة الصراع الأمريكية يجب ان يتوقف طالما لم تغير تلك الإدارة او القادمة من جوهر سياساتها. هناك قوى قاعدة كما هنالك دول وتجمعات سياسية واقتصادية جديدة يتوجب دراسة التموضع حولها من جانبنا وكذلك توسيع دوائر العلاقات مع الشعوب واحزابها من اجل تطوير شبكات دولية مناهضة الحروب وأشكال الإستعمار والتمييز العنصري نحو مزيداً من تحقيق عزلة اسرائيل والولايات المتحدة من جهة ، والارتقاء بدور اداؤنا الداخلي بما ينسجم مع ما ذكره في شأن دور منظمة التحرير ، وتوسيع دائرة اتخاذ القرار ليشمل كافة الفئات على قاعدة شركاء في النضال شركاء بالقرار ، ليتفق ذلك مع تراث شعبنا الديمقراطي لحين التمكن من وقف العدوان الإبادي واجراء الانتخابات وفق قاعدة وحدة الارض والشعب والقضية .

Loading...