تكمن أزمة إسرائيل في استعصاء قدرتها على التغيير، مع وصولها إلى درجة عالية من الاستقرار والتطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بعد مرور 76 عاماً على قيامها، وبعد أن بات أكثر من 65 في المئة من سكانها اليهود من مواليدها، الأمر الذي يتطلّب منها حسم التساؤلات المطروحة عليها لجهة تعريف هويتها وتحديد حدودها الجغرافية والسياسية والديموغرافية، وتالياً التحول من دولة بذاتها إلى دولة لذاتها، ومن دولة ليهود العالم إلى دولة لمواطنيها، ومن دولة ذات دور سياسي وظيفي إلى دولة عادية.
ما يتطلّب من إسرائيل الحسم في تلك الأسئلة أيضاً، جملة المتغيّرات الدولية والإقليمية والتحولات العالمية، خصوصاً مسارات العولمة الاقتصادية والتطورات التكنولوجية والعلمية، التي جعلت من قوة الدول، على الصعيد الدولي، لا تقاس بمساحة الدولة أو بعدد سكانها، أو حتى قدرتها العسكرية، فقط، وإنما بقدراتها العلمية والتكنولوجية والاقتصادية وبالقبول الخارجي بها.
أيضاً، يدفع إلى ذلك التأثيرات العربية والإقليمية، وضمنها عملية التسوية، التي حولت الصراع العربي ـ الإسرائيلي من قضية صراع على وجود إسرائيل، إلى صراع على حدودها، وهو ما فتح المجال أمام تخفيف التوتر الداخلي فيها، الموجّه نحو العداء مع محيطها لصالح حسم التوترات الداخلية، وهو الأمر الذي شهدنا فصولاً عنه قبل حرب غزة، أي قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، رغم أنّ ذلك الحدث، وبمفاعيل معاكسة، يمكن أن يدفع نحو الاتجاه ذاته، أي نحو حضّ إسرائيل على الذهاب نحو حلول سياسية، بدل التمترس بالحلول الأمنية، القائمة على القوة والردع والاحتماء بالدول الخارجية الضامنة لأمنها وتفوقها، لا سيما الولايات المتحدة.
بيد إنّ إسرائيل إزاء كل ما تقدّم تواجه مشكلات عدة. المشكلة الأولى، تنبع من الترابط بين الاستحقاقات الداخلية والخارجية، أي بين عملية تحديث النظام السياسي فيها وتعريفها لحدودها ولهويتها ولدورها، من جهة، ومواكبة التغيّرات والتطورات الخارجية المرتبطة بمسارات التحديث والعولمة، ومن ضمنها متطلبات عملية التسوية، من جهة أخرى، ما يفسر التعقيدات المتعلقة بهذه العملية وتحولها، بمعنى ما، إلى قضية إسرائيلية داخلية.
أما المشكلة الثانية، فهي تنبع من الطابع التاريخي والسياسي الملتبس للدولة العبرية، فهذه الدولة لم تنشأ بنتيجة التطور الطبيعي للتجمع اليهودي في فلسطين، وإنما قامت بفعل عمليات الهجرة الاستيطانية ـ الإحلالية، إلى فلسطين، ونشأت برغم إرادة أهل الأرض الأصليين، وبفضل عوامل القوة والهيمنة والمساعدة الخارجية.
وما يزيد من مأزق إسرائيل مجموعة الالتباسات والتناقضات التي نشأت وتطورت معها منذ قيامها، فهذه الدولة نشأت من دون دستور، ومن دون تعيين لحدودها الجغرافية والبشرية، وهي تعرّف نفسها بأنّها دولة يهودية وديموقراطية في آن معاً، وهي دولة علمانية حديثة وأيضاً دولة دينية تقليدية، وهي دولة لمواطنيها الإسرائيليين تماماً كما أنّها دولة اليهود في العالم، وهي دولة ديموقراطية لمواطنيها من اليهود فقط، فهي تجيز التمييز القومي تجاه 20 في المئة من مواطنيها العرب!
ثمة مشكلة ثالثة تتعلق بإسرائيل، ذاتها، فبسبب من كونها دولة غير طبيعية، من الناحية التاريخية، فإنّ سعيها لإيجاد أجوبة حاسمة عن الأسئلة الجوهرية المطروحة عليها، تواجه صعوبات وتعقيدات كبيرة، تختلف كثيراً عنها لدى الدول العادية. وتدل التجارب بأنّ المجتمعات الاستيطانية المصطنعة، بخاصة منها المجتمعات الإيديولوجية (القومية والدينية) العنصرية، تحتاج إلى وقت كبير وإلى تجاذبات عاتية حتى تستطيع حسم خياراتها، كما تؤكّد التجارب بأنّ البنى والدوافع الداخلية لوحدها تشكّل، شرطاً ذاتياً لازماً ولكنه ليس كافياً لعملية التغيير التي تحتاج، إلى جانب عوامل الدفع الداخلية، إلى عوامل دفع خارجية للضغط في هذا الاتجاه، وهذا ما ينطبق على إسرائيل ذاتها إلى حدّ كبير.
في الإطار ذاته، لدينا المشكلة الرابعة، التي تتجلّى في هذا التداخل بين الدين والدولة في إسرائيل، وبين الدين والقومية، بحسب الصيغة الصهيونية- القومية، وهو ما يصعّب ويعقّد فك العلاقة بين الدين والدولة الإسرائيلية، لأنّ المشروع الصهيوني برّر نفسه منذ البداية بالدين اليهودي وبالرواية الأسطورية الدينية، بالرغم من الطابع العلماني للصهيوينة، ومن هنا أهمية مثل هذه المحاولة لأنّها تمهّد، بمعنى ما لمراجعة الصهيونية ونقدها وتجاوزها، بكل ما لذلك من انعكاسات على إسرائيل وعلى رؤيتها لذاتها وعلى الصراع العربي ـ الإسرائيلي.
على ذلك، فإنّ واقع إسرائيل، اليوم، وعلى الصعيدين المجتمعي والسياسي، يؤكّد أنّها تعيش انشقاقاً ثقافياً وطائفياً، علمانياً ودينياً، شرقياً وغربياً، في آن معاً، وهذا الاستقطاب الحاد، يتعلق بعملية التسوية وأيضاً بطبيعة الدولة: هل هي يهودية أم إسرائيلية؟ هل هي دينية أم علمانية؟ هل هي ديموقراطية أم عنصرية؟.
على هذا الأساس، يمكن ملاحظة تبلور تيارين أساسيين، الأول، يضمّ أحزاب الوسط واليسار، ومجموعة من المثقفين العلمانيين ورجال الأعمال، وهو تيار يمهّد الطريق نحو إجراء مراجعة للصهيوينة التقليدية، تتأسس على الواقع الذي أصبحت عليه إسرائيل اليوم، كبنية اجتماعية مستقرة، كما تتأسس على تكييف إسرائيل لدورها مع المتغيرات الدولية والإقليمية.
أما التيار الثاني، فيضمّ الأحزاب القومية اليمينية والدينية، بزعامة الليكود، وهذا التيار، الذي يعبّر عنه بنيامين نتنياهو، يرى في ملامح المراجعة ولو المحدودة للصهيوينة، تراجعاً عن الصهيونية وخطراً على إسرائيل ذاتها، وهو يدعو في المقابل إلى تجديد الصهيوينة. وقد عمل هذا التيار كل ما بوسعه للتحالف مع الأحزاب الدينية المتطرفة، للحدّ من نفوذ تيار المراجعة والتحريض عليه باستنفار المشاعر والرموز الصهيونية والدينية التقليدية لدى جمهور المستوطنين، وهو ما أدّى إلى تعميق الهوة بين التيارين، وبالتالي ازدياد نفوذ التيار الديني.
ومشكلة التيار القومي اليميني (العلماني) أنّه بات أسيراً للتيار الديني، بحيث لم يعد التيار الديني يرضى بمجرد وجوده كديكور في السياسة الإسرائيلية، أو بمجرد إعطاء الشرعية اليهودية للنظام السياسي الإسرائيلي، وإنما بات يطالب بدور المقرر في السياسات الداخلية والخارجية، وهو ما يهدّد إسرائيل باعتبارها دولة علمانية وحداثية.
من كل ذلك يمكن الاستنتاج بأنّ إسرائيل اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، تبدو على عتبة تحولات وتحدّيات نوعية كبيرة، يتوقف عليها شكل هذه الدولة وعلاقاتها الداخلية والخارجية، ولكن الذي سيحسم اتجاه هذه التحولات ليس فقط صناديق الاقتراع الإسرائيلية في الانتخابات المقبلة للكنيست، وإنما أيضاً، طبيعة التوجّهات والسياسات والضغوط الخارجية الدولية والإقليمية، لا سيما التي باتت تتكاثر وتتصاعد بعد حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل ضدّ الفلسطينيين في قطاع غزة، والتي تتوازى مع محاولة حكومة نتنياهو، سموتريتش، بن غفير، تحويل إسرائيل من دولة ديموقراطية ليبرالية (نسبة لمواطنيها اليهود) إلى دولة يهودية ودينية.