النّفاق المركزي

من أسوأ الأمور على الإطلاق أن تستمع إلى شخص يعظك بما هو ليس فيه. هذا هو حالنا مع السياسيّين في لبنان، وخاصّة رؤساء أحزاب الحرب الأهليّة وما يحيط بهم من مؤيدين وأنصار، وخاصّة الناشطين في وسائل التواصل الاجتماعي الّذين حوّلوها إلى وسائل للتناحر الإجتماعي.  

آخر التواشيح أو الموشّحات اللبنانية هو تصريحات رئيس مجلس النواب وردّ القوات اللبنانيّة (وكلاهما طبعا من المدافعين عن الديمقراطيّة والحريّة)، والأهم من ذلك درء الفتن التي )لا قدر الله( قد تؤدي إلى حروب داخليّة.

لن ننسى في هذا المجال طبعا الرجل ذو الآراء المثيرة للجدل جبران باسيل وتصاريحه الدائمة عن الدستور وحرصه على عدم وجود أي فراغ في السلطة، متناسيا تعطيل عشرات الجلسات لانتخاب رئيس للجمهوريّة. لكنه في المقابل لا يتقبل وجود فراغ في البلديات والمخاتير، كونهم أكثر أهمية من الرئاسة الأولى ومن حاكم مصرف لبنان ومدير عام الأمن العام، ناهيك عن قائد جيش مُمَدّد له خلافا للدستور، والّذي يحميه جبران باسيل برموش عينيه.

في عام 2015 نشر دانيال إفرون من كلية لندن للأعمال وديل ميلر من جامعة ستانفورد دراسة حول طرق تصور وتقبل الإنسان للآراء والنصائح التي يمكن أن يقدمها الآخرون.

وكان الباحثان قد طلبا من ثلاثة أشخاص إسداء نصيحة الإقلاع عن التدخين لمجموعة من المدخنين. كان أحد هؤلاء الثلاثة لم يدخن قط في حياته، بينما كان الثّاني قد دخّن لفترة ثم توقّف ولم يترك التدخين أي مضاعفات صحيّة عليه، أما الثّالث فكان مدخنًا ويعاني من مشاكل صحيّة كبيرة. ماذا أظهرت الدراسة؟

جميع المشاركين المدخنين رفضوا رفضًا قاطعًا الاستماع إلى نصيحة الشّخص الأول الذي لم يدخن قط في حياته. كما أبدوا عدم رغبة في الإستماع إلى نصيحة المدخن السابق الذي يتمتّع بصحة جيدة، ووصف بعض المشاركين سلوكه بأنّه مزعج ومتعجرف وفوقي وغير محترم. بالمقابل تم الاستماع إلى المدخن الذي يعاني من إدمانه بتفهم وتعاطف، وأخذ المشاركون بنصائحه.

ووافق دانيال إيفرون وديل ميلر على أن المدخن الذي لم يترك التبغ أثاره السلبية على صحته لا يمكن أن يكون مؤهلا للعب دور الواعظ أو المرشد (وهو حال قيادات الحرب الأهلية) في حين أن الشخص الذي يعاني من آثار التدخين هو الوحيد القادر على التحدث عن تجربته لأنه "دفع ثمن التدخين وبالتالي يعرف تكلفته" (هذا حال الناس الذين دفعوا ثمن حروب الواعظين).

وفقًا لعلم النفس الاجتماعي، يمارس الشخص الثّاني الذي لم يعاني من مضاعفات التدخين بأنه يمارس "النفاق المركزي" لأنه استمتع لفترة زمنية بالتدخين ولم يتكبد أي مشكلة. لذا لا يحق له تقديم نصائح للمدخنين، لأنه لا يؤمن بما يقوله، فهو استفاد من سلوك يدّعي رفضه، ويأتي الآن ليعطي دروسًا للآخرين. إنه... " النفاق المركزي".

على الصعيد السياسي، إن التناقض بين القول والفعل يسحب من الشخص ليس فقط شرعيّة النصيحة بل أيضًا شرعيّة السلطة.

ويحدّد دانيال إيفرون وديل ميلر مواصفات الشخص المؤهل لإسداء النصائح بالآتي:

  • أن يكون قد عانى شخصيًا من المشكلة التي يندّد بها.
  • أن تكون له القدرة على الالتزام بتعهدات تتماشى مع القيم التي ينادي بها.
  • أن يتمتع بسعة الأفق وبالقدرة على التعاطف مع الآخرين وتفهم مشاعرهم ومشاكلهم وأخذ آرائهم بعين الاعتبار.

فهل من بين السياسيين الواعظين من يتصف بهذه الصفات؟

 

كلمات مفتاحية::
Loading...