إسرائيل .. هيبة الجيش وهندسة المجتمع ..!

لم تنشأ إسرائيل كدولة طبيعية نتاج تزاوج الجغرافيا مع التاريخ ولم يختمر فيها الزمن ليشكل هوية وتراثاً كباقي الدول، فقد نشأت بقرار صادم وبقوة مسلحة نشأت بثنائية معقدة بين الدين والدولة، دولة علمانية بثقافة غربية تحمل في بطنها أيديولوجيا دينية نقيضة نشأت مخيلتها في الشرق. 
هذه التناقضات أحدثت قدراً من التشوه في بنية الدولة ومسارها كان السلاح والحروب يحاول أن يعلو عليها لكن في لحظة ما لا بد أن تنفجر.
الجيش هو العمود الفقري للدولة ليس فقط بالمعنى الأمني العسكري الوجودي بل إن مهندس الدولة الأول ومؤسسها كان قد أوكل للجيش مهمة التفكير وقيادة الدولة، لكنه كان يعطي للجيش مهمة اجتماعية أكثر أهمية وهي أن هذا الجيش سيكون بوتقة الصهر لكل الثقافات المهاجرة المتنوعة حد التضارب إلى إسرائيل .
تلقى الجيش منذ البداية كل مقومات السيادة والسيطرة على الدولة، فقد اعتبر بن غوريون أن السياسيين «مجرد مجموعة من الهواة المتصارعين» وقد رفعت الهندسة المتقنة مستواه إلى درجة القداسة «عجل الدولة المقدس» وتمت تسمية رئيس الأركان «القائد العام للقوات المسلحة» وليس رئيس الوزراء أو الرئيس كما دول العالم، ومع انتصارات العقود الأولى: حرب 48، حرب 56، ثم كانت ذروة القداسة العام 67 في حرب حزيران التي توّج الجيش نفسه وتوّجه المجتمع قائداً للدولة.
تحكم الجيش في كل شيء وأبعد من ذلك بالمجتمع نفسه محافظاً على ثقافة التأسيس العلمانية الغربية مهمشاً فئتين وهما: فئة المتدينين وفئة الشرقيين ودفعهما إلى هوامش المجتمع والمؤسسة بل مارس قدراً من القمع تجاه الشرقيين «أحداث وادي الصليب العام 59» وعدم السماح للشرقيين بدخول المؤسسة، أما المتدينون فقد أبقاهم في معابدهم وكنسهم بعيداً عن السياسة.
كانت حرب 73 نقطة التحول الأولى عندما انكشف الجيش أمام الهجوم المصري السوري المباغت لتنكسر هيبته ويفقد جزءا من تلك القداسة، ما تسبب بتغيير هائل في بنية المجتمع التي أطلقت العنان للفئات المهمشة بالتحرر أولها الفئات الدينية التي بدأت تنمو على هزيمة الجيش لتبدأ مشروعها الاستيطاني في الضفة، ثم الشرقيون فلم تمر سنوات أربع حتى كانوا يتسلمون الحكم في انتخابات 77 التي انتهت بهزيمة للتيار العلماني المؤسس.
منذ السابع من أكتوبر يتعرض الجيش لضربة لا تقل فداحة تطفئ وهج ما تبقى من نجومية للجنرالات، رئيس أركان تعكس ملامحه مأزق المؤسسة التي يترأسها يتزامن مع تهديدات متعددة، إيران تصل للعمق لأول مرة بشكل علني، تآكل قوة الردع مع إبادة شعب في غزة وسحق للقطاع ما يصنفه عالمياً كجيش مارق، قادة بين الاستقالة الفعلية والاستقالة المعّلقة حتى الآن، بدأت بالجنرال يهودا فوكس قائد المنطقة الوسطى التي تشمل منطقة الضفة الغربية يتبعه أهارون حاليفا قائد الاستخبارات العسكرية «أمان» التي أحيلت لها مهمة استشراف الحروب بعد العام 73 التي فشل الموساد في التنبؤ بها لتصاب بهذا الفشل بعد خمسة عقود ولم يحتمل رئيس «أمان» الاستمرار حتى نهاية القتال.
تتداول الأخبار اقتراب مغادرة هرتسي هليفي رئيس الأركان درة المؤسسة الملقب بـ «الفيلسوف» - لما يقال عن كفاءته الاستثنائية وعقله الراجح - الطبقة العسكرية، وكذلك رونين بار رئيس المخابرات ودافيد بارنياع رئيس الموساد وربما مغادرة مساعديهم وجنرالات غيرهم كلهم منذ بداية الحرب تحملوا المسؤولية وتلك في العرف العسكري استقالة معلقة يبدأ سريانها لحظة نهاية الحرب.
هذا الأمر شديد الأهمية ليس لجهة مغادرة أفراد - وهي ليست مهمة في مؤسسة قوية نظامية يتأهل فيها القادة بشكل مهني بعيداً عن الولاء والتبعية كما يحدث لدى العرب وهي قادرة على تعويضهم بشخصيات لا تقل تأهيلاً - لكن تداعيات ذلك على المجتمع الإسرائيلي وإعادة هندسته من جديد تلك هي الأهم.
ما حدث للجيش الإسرائيلي يمكن اعتباره نهاية الهيبة والمكانة التي حظي بها في الدولة، ومن يستمع لملاحظات وانتقادات الطابق السياسي للجيش يدرك حجم التغير في النظرة للمؤسسة لصالح القوى الدينية الأكثر تطرفاّ، كان رد بتسلئيل سموتريتش على استقالة يهودا فوكس مهيناً وخاصة أن التيار الديني الاستيطاني كان قبل الحرب قد شن حملة ضد فوكس وكذلك محاولته قطع الطريق على صلاحية هرتسي هليفي لتعيين بديل لحاليفا، هذا لم يكن مقبولاً سابقاً لا الدولة تقبل انتقادات لعجلها المقدس ولا المجتمع الإسرائيلي الذي رفع الجيش إلى تلك المكانة السامية يتسامح مع أي انتقادات إلى الدرجة التي جعلت السياسيين يتزلفون للمجتمع بإشادتهم بالمؤسسة العسكرية .. الأمر يختلف الآن.
هذا يعني تكرار تداعيات بعد أكتوبر 73، فالمجتمع الإسرائيلي أمام تغيرات بنيوية كبيرة كان يذهب باتجاه اليمين منذ عقود ظهرت في السنوات الأخيرة حتى العام الأخير كانت مؤسسة الجيش تقف مانعاً أمام إعادة فك وتركيب الدولة «الثورة القضائية» كيف أرغم الجيش ممثله وزير الدفاع على التصويت ضد حزبه ... الجيش الآن يقف في موقف الدفاع تتعاظم حوله التهديدات دون أن يتمكن من مواجهتها وحده كما قال الأميركان هو الدولة العميقة التي ظلت محافظة على إرث التأسيس وقد انكشفت محدودية قدراتها في الدفاع عن الدولة، فكيف ستكون إسرائيل في سنوات قادمة؟

 

Loading...