فِقْهُ التَشكيكِ الجاهليّ..

 

ثمّة سؤالٌ حارق: ما الذي يستفيده الفلسطينيّ أو العربي، بل القلّة النشاز القليلة منهم، عندما يشوّهون المقاومة، وإن اختلفوا سياسياً معها؟ ألا تقاتل وتواجه "عدوّنا"؟ وماذا يحقّقون وهم يفتّون في عضد المعنويات؟ هل هو الحرص على الضحايا؟ ألا يعلمون أن للاحتلال الفاشيّ أهدافاً إجرامية استلابيّة، وإن لم يعلن عن بعضها؟ أليست تكمن في القضاء على كل منجزاتنا، وتحويلنا إلى عبيد أو موتى أو لاجئين؟ وإنْ بقينا في استكانتنا وصمتنا؟ وهل فِعل "التحرّر" و"المقاومة"و"ردّ العدوان" هو توريط؟ ألم يكتب الشهيد غسان كنفاني، عشية عملية عيلبون البطولية، التي كانت إيذانا بميلاد حركة فتح.. ألم يسهب عن:" التاءات الست" ومن ضمنها الـ “توريط".. هل كان محقا؟ أم كانت العملاقة الغلّابة فتح هي المُحقّة، عندما شرّعت نوافذ المقاومة واجترحتها، وحقّقت لشعبنا هويّته وشخصيته الوطنية، وأعطت لمنظمة التحرير، ممثلنا الشرعي الوحيد وبيتنا المعنوي، مضمونها الساطع المجيد؟

أنتَ في زمن الحرب، لستَ حيادياً؛ إما مع هذا أو مع ذاك، وعليكَ أن تنحاز إلى طرفٍ هو الأقرب إليك. وهذا لا يعني تكميم الأفواه وغضّ النظر عمّا ينبغي إصلاحه، شرط ألا يأخذ النقدُ من حصّة ووجود وحيوية الجانب الذي تقف معه. والناقد غير الناقم! أما المراجعة والتقييم والمحاسبة، فإنها تتمّ بعد أن تصمت البنادق ويهدأ الحال. فالحقيقة ليست مجرّدة، وحتى تكون كاشفة ومقبولة، عليها أن تختار المكان والزمان المناسبين.

ألم نتعلّم بأنكَ إذا ضربتَ الإمبريالية، أينما كانت، فأنتَ تُضعِفها، لأنها مثل الأخطبوط، وعليك أن تواجه كلّ استطالاتها وأذرعها!

ألستَ مع أيّ جهة، ما دامت تضرب عدوّك؟ ولو من منطلق براغماتي محض! ألا تؤمن، أيها المشكّك، بنظرية "أثر الفراشة"؟ فلماذا تصطفّ، بلغتك الناتئة، مع قاتل شعبك؟

ولماذا هذه السخرية الساخطة، التي تنال من المقاومين؟

نعم! قد نختلف سياسياً أو فكرياً معهم.. ولكن؛ ماذا تعني السخرية، أو الفكاهة المجّانية الرخيصة، غير أنها تبتذل الدم والمقاتلين والبطولات العبقرية، وكأنها تمتدح ما يفعله الإحتلال! بمعنى: عندما تهزأ من طرف.. فإنك تنتصر للطرف الآخر، وتُزكّيه بالضرورة.. أليس كذلك؟

ولماذا التركيز على هوامش الخطأ؟ الآن؟ والمعركة محتدمة؟ ألا يقوّض أركانها؟ ويطعن ظهرها؟ ويجعلها عرضة للصفع، في لحظة الاشتباك؟ ألا يعلم "المنتقدون" أن حالة الحرب، وفي مكان ضيّق، وتحت أقواس القصف والترويع والتجويع، تفرز أسوأ ما في البشر، مثلما تُظهر أجمل ما في الناس المُحَصَّنين؟

ولماذا يتذكّر هؤلاء، اليوم، أخطاءَ وخطايا الانقلاب؟

نعم! لقد وقعت كوارث لا تغتفر.. ولكن؛ أما تجاوز قيادتُنا فظاعات إسرائيل ومجازرها المصوّحة، ووضعنا أغصان الزيتون على الدبابات، وصافحناها في أوسلو؟ ولماذا هذه المكارثية؟ والتفتيش في ضمائر الناس، بدعوى الانتقام وإيقاظ الثارات؟ أليس هذا منطق الجاهلية؟ وهل بهذا الغبش والتعكير وتسميم الأجواء والتحريض ضد بعضنا البعض، نتجاوز مشكلاتنا؟ أما من عاقل رشيد يُلجم هؤلاء المنفلتين، الذين يدّعون الحفاظ على الحالة الوطنية، وهم، باسمها، يذبحون الوطن ويوقظون داحس والغبراء؟ أما وقف الأخ الرئيس، في الأمم المتحدة، وحمى حماس من تهمة “الإرهاب"؟ ألا تدعو قيادتنا إلى تجاوز ما جرى، وتحاول تأسيس أُفقٍ جديدٍ جامعٍ للشمل؟ ألم ينادي السيد الرئيس، غير مرّة، الأمناء العامّين، ولا يزال.. لتوحيد الصفّ الفلسطيني؟ ألم يعلن أعضاء مركزيتنا؛ بأن ما جرى في السابع من أكتوبر، كان ردّة فعل غاضبة وطبيعية.. على ممارسات الاحتلال وفظاعاته؟

إذاً؛ من أين يَستقي المُشكّكون، مواقفَهم؟!

ومَن خَوّل هذا أو ذاك، لينطقَ باسمِ الشعب والحركة؟ ويدّعي أنه يمتلك الحقيقة؟ وأن حقيقته مقدّسة وثورية وخالصة البياض؟ مَن؟

إن فتح؛ الأُمَّ والأب، والأولى، الصاعدة، دوماً، نحو المجد والخلاص، هي التي ينبغي أن تلمّ الشعث وتوحّد شعبها، وتشمل كلّ القوى في عباءة م. ت. ف. باعتبارها الجبهة العريضة للكلّ الفلسطينيّ الوطني. وإن أهم ما يميز حركتنا العظيمة؛ هذا الأفق الوسيع من التعددية، والاجتهاد، والتنوّع الحميد، ما دام تحت مظلّة فتح العالية وفي فضاء روحها الرحبة.. ما يحول دون تحجيمها أو اختصارها أو اقتصارها، على حجم هذا الرأي أو ذاك العضو.. وحتى يبقى الإلتزامُ الحُرُّ بطانتَها المتماسكةَ المتينة، ويختفي الإلزام الممجوج الكريه، ومفردات القبيلة، ونداءات العصبية الطفولية الهادمة.

وإني لأعجب أن يكون شعار دولة الاحتلال "معا ننتصر"، وشعارات بعضنا، باسم الثورة والحرص: فَرِّق وشَتّت وشَكّك وفَزِّع وتهكَّم...؟!

وقديما قيل: أنقذ حياتي أولا، ودَعِ الملامةَ للأخيرِ.

ولا أُنكر أن من حق أيّ فلسطيني أن يرى ما يشاء، ويخلص إلى أيّ نتيجة يراها معقولة وصحيحة، على أن تكون لغته رصينة جدّية، تتكئ على مُعطيات واقعية وملموسة، وبأسلوب أنيقٍ، بعيدٍ عن الشعبوية والتشظية والنيْل اللاذع من القوى الفاعلة، أيّاً كانت، شرط أن تكون مفرداته خالصة من التشكيك والتخوين والتوصيف، الذي يودي إلى الإعدام، ويعمّق اللغة النهائية، التي تقدّم المتحدّث "نبياًّ" وخصمه "شيطاناً".. فعندها لن نلتقي، ولن نترك للحوار المسؤول أيّ مساحة!

ولنعلم أن للغة أخلاقاً، وتعلّمنا المروءة، كما قال الفاروق عمر، رضي الله تعالى عنه.

من حقّ الفلسطينيّ أن يرى أن هذا المُكوِّن أو هذا المحور مقاوم، ويراه غيرُه متآمراً، على أن يقدّم مرافعته الناضجة المقنعة، بلغة حريصة منتمية ومسؤولة، تتغيّا التوجيه والإرشاد والاصطفاف الأنجع. بمعنى أنني أستطيع استخدام كلمات مُنفّرة، مثل: "التسحيج والخيانة والطابور الخامس والفساد والتآمر والتمويل السرّي والارتباط المشبوه والمتاجرة.. الخ"، كما أستطيع انتقاء مفردات بيضاء نقدية علمية موضوعية، أوصل بها أيّ فكرة، بشكل كامل، دون التباس، ودون أن أُثير أيّ حساسية مقيتة، لا داعي لها، وفي هذا الوقت بالذات. وقديماً؛ رأينا مدرستين في الفقه، على الأقل، تكتفي الأولى بترديد مفردة "الحرام" أو"الحلال" فقط، دون توضيح وتبرير.. وتقول الثانية بضرورة عَرض المسوّغات، وكلّ الآراء ومرجعياتها.. ولكَ أن نختار الرأي الفقهي الأكثر سلامة ومعقولية. وأنا أرى أن المدرسة الثانية هي الأكثر وَعْياً وعافية وأهمية وقناعة، وتحقق المعرفة والتعددية المحمودة والمناعة الفكرية والصلابة الأخلاقية..

وأعترف بأن الفلسطينيّ قد وجَدَ نفسَه بين شفرتين ذابحتين إما أن يُقاتل فيدفع أثمانا لا تُطاق، أو يستسلم فتضيع حقوقه ويصير عبداً! ولكل وجهة نظر وجاهة ومُرافعة تبدو مقنعة! ذلك لأن التراجيديا لها يدان قاتلتان.

غير أن المُقاتل المقاوم تصبح مهمّته صعبة، وتشبه مهمّة الأنبياء، الذين يريدون أن يحوّلوا الناس من الظلمات وعبادة الأوثان، إلى أُفقٍ طاهرٍ معافى، عادل ونقيّ! ويتغيّون سحب العبيد من تحت نير المهانة، إلى سدّة الكرامة والمساواة والنماء، بحرية مُصانة وأكيدة! ولهذا يدفعون أثماناً كبيرة، وتتمّ ملاحقتهم واتهامهم وتلويث دعواتهم، وهذا أعلى درجات النضال، الذي يُجاهد لصالح الناس، دون تردد أو تمييز. وأعتقد أن أيّ معركة تعمل على تغيير الثوابت الظالمة، والاستراتيجيات المُختلّة، والمصالح العنصرية، في أيّ بقعةٍ وزمن، ستدفع كُلفةً، تساوي حجم ما فعلته. بمعنى؛ كلّما عملت المعركة على تبديل المشهد المُتكلِّس العفن المُعتم، كلّما كان الثمن باهظاً، بمقدار التحوّل الذي حقّقته على الأرض.

ويحاول الاحتلال، منذ عقود، ويسعى، إلى تحويل الفلسطيني لِ"ضحية إيجابية"، من وجهة نظره؛ بمعنى أنه يقتل ويذبح ويسلخ ويصادر ويعتقل ويحرق.. ثم يريد من الفلسطينيّ أن يبقى ساكتا مطأطئ الهامة! أمّا إذا هبّ وقاوم وقاتل وردّ.. فإن الاحتلال يبهظه جداً، ويبالغ في القتل والتدمير.. حتى يتراجع ولا يكرر محاولاته.. ما يجعل البعض، منّا، يستغيث ويلطم ويطالب بـ “التهدئة" و"سحب الذرائع"، كي لا يواصل الاحتلال جنونه المحموم الدامي، وانتظار الحلّ السياسي -الذي لن يأتي-، وبهذا فإن منطق هؤلاء يطالبنا بالاستسلام، بل ويريدنا أن نحفر قبورنا بأيدينا ونخيط أكفاننا بأصابعنا!

وربما سأقف مع المطالبين بالتهدئة، لو أن الاحتلال يسمع، أو يرعوي، أو يتوقّف عن القصف واستباحاته للمقدسات وحرق البلدات والأشجار ومصادرة الأرض، لكنه يواصل إجرامه وغطرسته وعربدته. وأسأل ما الحلّ أيها السادة؟ هل نتفرّج على الاحتلال وهو يرتكب فظاعاته وجرائمه، لأننا "ضعفاء" و"لا حيلة لنا" و"لا نستطيع معه قتالاً"؟ إنه عندها سيحسم الصراع، ويتمّم خططه، وينفّذ مشاريعه، وسيبتلع البلاد ويسيطر على الأقصى! أليس كذلك! في زمن الصمت العربي والاسلامي والنفاق الغربي!

أنا أعرف أننا بين شفرتين، لكن قتال الاحتلال ومواجهته هو أمر واجب الوجود، لأنه مُجْدٍ، ويبهظ الاحتلال على غير صعيد، ويلجم مستوطنيه ويحد من الاستيطان، ويحفظ المقدسات، ويُعيد القضية الفلسطينية إلى الصدارة، ويستنهض الشارع العالمي، ويحرّك الماء الآسن، ويكلّف الخصم خسارات فادحة. وعلى كل فلسطيني أن يُمارس "مقاومة" وطنية، غير مستوردة، ولا يقاتل بالنيابة، وتناسب ظرفه وحالته، من المقاومة السلمية الشاملة، إلى ما ضمنته القوانين الدولية.

سنقف مع أي اقتراح سياسيّ يمكّننا من حقوقنا، لكنّنا لن نستكين ولن نتجاوب مع أي صيغة تكرّس الاحتلال وتشرعنه وتعمّق سيطرته ويبقينا تحت بسطاره. لن نقدّم أي موافقة "مجّانية"، بدعوى الضغوط واختلال موازين القوى أو الاحساس بالصَغَار والخسائر. وقضيتنا قضية أجيال، وإن كان الصراع مُشرعاً على أفق المقصلة!

كلمات مفتاحية::
Loading...