الولايات المتحدة تحاول جَني الثمار الجيوسياسية للعدوان الجاري

في مقالات سابقة كنت قد كتبت حول مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي سعت وما زالت الإدارات الأمريكية لأجل تحقيقه منذ عقدين من الزمن لاعتبارات مختلفة كنت قد أشرت لها من النواحي السياسية والإقتصادية التي تم الاعلان عنها، بالإضافة إلى الأمنية العسكرية لأطماعها والتي تؤشر لها مسألة بناء الرصيف البحري بمخلفات الدمار وبما فيها من أشلاء شهداء غزة، إضافة إلى الكشف عن إنشاء قاعدة عسكرية أميركية سرية في صحراء النقب، ما يعكس تغيراً جيوسياسي استراتيجي في المنطقة، خصوصاً وأن الحديث يدور عن قاعدة ضخمة تضم نحو ثلاثة وعشرين ألف جندي أميركي ومعدات وأسلحة جديدة ومتطورة جداً. والجديد ليس فقط بناء قاعدة ورصيف بحري بهذا الحجم في إسرائيل وغزة، بل رغبة الولايات المتحدة في الاستعاضة عن بعض القواعد في الدول العربية. وهذا التغيير الكبير وغير المسبوق في السياسة العسكرية الأميركية جاء بعد تطورات عديدة شهدتها منطقتنا.

واليوم وبعد أكثر من مئتي يوم على الجريمة المستمرة من الإبادة والتطهير العرقي والتهجير في غزة وبعض أنحاء القدس والضفة الغربية لكن بشكل أقل حدة لكنه أكثر أهمية من جهة الرؤية السياسية الصهيونية التوراتية حول تنفيذ مشروع ما يسمى أرض إسرائيل الكبرى.

فإن نتنياهو اليوم يطيل أمد الحرب إلى الحد الذي أصبح بإمكانه أن يبتز كل الأطراف بالمعنى السياسي وبالمعنى العملياتي. الآن الرهان الذي كان يُرَوج له في الأيام القليلة الماضية وفق وسائل الإعلام الإسرائيلية والأمريكية وتصريحات المسؤولين الأمريكيين أن هناك صفقة وشيكة استناداً إلى ما يعرف باسم الورقة المصرية والتي هي بالأصل ورقه مصرية جرى التوافق إلى حد ما عليها مع الأطراف المعنية كالولايات المتحدة.

لذلك بدأ يشعر بنيامين نتنياهو بأن هناك أفق لإنجازات سياسية ستوفر عليه الكثير من العناء إذا ما اختار أن يذهب إلى عمليه عسكرية في رفح أو أن يقبل بصفقة وفق ما تم الاعلان عنه في مسودة الوثيقة. والأمر الغريب هنا والذي يفسر لنا تصريحاته أن المقترح المطروح على حركه حماس والذي زار وفدها القاهرة لكي تتضح إيجابيات محدده حولها، ثم عاد ولم يعطي قراراً لحظياً، وخيراً أنهم فعلوا ذلك سياسياً من حيث الانتظار برأيي حتى وضوح البنود تماماً، رغم الضرورة الملحة اليوم بوقف عدوان الإبادة بحق شعبنا لكن ليس بأقل الأثمان السياسية وإتاحة المجال لاستكمال العدوان بالوقت الذي تشاؤه دولة الاحتلال.

نتنياهو يتريث الآن لكي يحصل على حصاد سياسي قبل أن يأخذ قراراً نهائياً بشان الهجوم على رفح، وهو يعلم جيداً بأن الهجوم على رفح يحول دونه اعتبارات كبيره وكثيره من بينها اعتراض الولايات المتحدة الأمريكية لكن من حيث شكل العدوان والتفاصيل فقط دون مبدأ الهجوم، وعدم استنفاذ الاهداف العسكرية المعلنة في كل قطاع غزة، لكنه يعلم أيضاً أن عدم الذهاب إلى رفح أو القبول بالصفقة يعني اعلان الفشل الصريح لدولة مقابل تنظيم مقاومة مسلح .

ويوم أمس وصل بلينكن إلى إسرائيل وقبل وصوله، كانت الخارجية الأمريكية قد أوضحت بجلاء بأنها لا ترى أي خطة واضحة لإسرائيل لدخول رفح، فالولايات المتحدة الأمريكية تنظر الآن إلى الحرب بشكل مختلف تماماً. بنظرها اليوم فإن تحقيق أهداف الحرب لا يتأتى من خلال الدخول إلى رفح بمعنى أنه لا يمكن أن تحقق أهداف الحرب حتى لو دخلت إسرائيل إلى رفح هذا لا يعني من جهة أخرى أنها سوف تحقق أهدافه هذه مجرد عمليه سياسية وعد بها نتنياهو جمهور اليمين من أجل تنفيذه، رغم جرائم جعل غزة مكاناً غير قابل للحياة.

ولذلك الولايات المتحدة الأمريكية حتى هذه اللحظة لا ترى أن تحقيق أهداف الحرب هو مرتبط بعملية عسكريه حتى بعد القضاء على مئة ألف من أبناء شعبنا بين شهداء ومفقودين وجرحى، بالإضافة إلى أن ذلك سيزيد من تفاقم الاوضاع الداخلية في الولايات المتحدة مع اقتراب انتخاباتها الرئاسية ولن يساهم باستقرارها بعد أن عمّت المظاهرات الشوارع وحرم الجامعات الأمريكية للمطالبة بوقف العدوان والتضامن مع حقوق شعبنا التي من المتوقع تصاعدها، في وقت قابلتها السلطات الأمريكية بكل أشكال القمع والاعتقالات كما في عدد من الجامعات الأوروبية وتحديداً في برلين أيضاً، الأمر الذي يظهر من جانب آخر حجم التضامن الدولي الشعبي مع حرية شعبنا واستقلاله الوطني والضرورة المرتبطة بذلك لإنهاء العدوان والاحتلال أولاً، ومن جهة أخرى افتضاح أكذوبة حريات الرأي وحرمة الجامعات الكبرى بالغرب، وانفضاح مطالبات بايدن وترامب بالقضاء عليها .

إن عدم دخول رفح الآن يساعد من أجل أن تستطيع الولايات المتحدة من وجهة نظرها أن تصيغ عملية سياسية بما يسمى "اليوم التالي للحرب" ولكن العامل الأساسي في كل هذه المسألة الضاغط على نتنياهو بشكل خاص هو العامل الداخلي الإسرائيلي بالإضافة إلى الضغوطات الخارجية. العامل الداخلي الإسرائيلي هو عامل حاسم لكل الأطراف الإسرائيلية التي تعاني الأزمة السياسة الحزبية وعلى مستوى الشارع وربما بشكل لم يسبق له مثيل وما يرتبط بتهديد مستقبل نتنياهو السياسي أو حتى كل النظام وجوهر الفكر الصهيوني العنصري الذي بات يخسر اليوم في أوساط يهودية حول العالم التي تشارك بفعاليات التضامن معنا. ما يعني دخول إسرائيل مرحلة بنيوية جديدة بعد 7 أكتوبر تتفاقم الآن مشاكلها وأزماتها بحكم اللحظة الراهنة العسكرية بمخاسرها الكبيرة والسياسية المتمثلة بعزلة إسرائيل ووقوفها في قفص العدالة الدولية تحت تهديدات أوامر الجنائية الدولية باعتقال وتوقيف مسؤولين إسرائيليين من بينهم نتنياهو نفسه، كما وأولية القضية الفلسطينية أمام كافة المستويات الدولية اليوم.

أغلب الظن أن حركة حماس والمقاومة ستنتظر على الأقل حتى يوم غد أو بعد غد لكي تتضح صورة الاتصالات السياسية التي يجريها وزير الخارجية الأمريكي بلينكن الذي قدم من السعودية وصولاً إلى هنا ليله أمس في زيارة إلى تل أبيب. وفي حقيقة الأمر أن المعركة السياسية التي تدور ما وراء عمليه التفاوض من أجل التوصل إلى وقف إطلاق النار هي الأكثر أهمية في هذه المرحلة. بمعنى أن الولايات المتحدة لا زالت تصر على أن بوسعها أن تمضي في عمليه الترتيب الاقليمي بإنشاء حلف أو تكتل اقليمي وفي القلب منه عمليه تطبيع بين المملكة العربية السعودية وإسرائيل، وهو المقدمة المطلوبة لجني الثمار الجيوسياسية وصولاً إلى تحقيق رؤيتها حول الشرق الأوسط الجديد. وهو يأتي أي بلينكن إلى إسرائيل لكي يقدم تفاصيل ذلك من باب إقناع نتنياهو بأن يقبل بالمقترح الذي تم تقديمه من هذه الزاوية.

إذاً هناك مناورة ولعبة سياسية كبرى يحاول أن يرسمها نتنياهو إلى أبعد مدى لصالحه من خلال ابتزاز الأمريكان والمصريين والأطراف الإقليمية الأخرى، والتي حتى الآن لم نسمع لا من الولايات المتحدة ولا من الاطراف العربية التي اجتمعت مع بلينكن واجتمعت قبل أن تجتمع معه في اجتماع السداسية العربية، عن أي خطوات أو التلويح باتخاذ أي اجراءات تجاه إسرائيل إذا لم توافق على وقف دائم لإطلاق النار ووقف حرب العدوان الجارية. لذلك فإن نتنياهو يطلق تصريحاته بوضوح وفق رؤيته وهو مرتاح أنه لا يوجد ضغط فعلي أو ضغط حقيقي عليه لا من أطراف الاقليم ولا من الولايات المتحدة، حتى أن إفادة وزير الدفاع الأمريكي في الكونغرس أمس تُبقي الباب موارباً أمام عملية في رفح فيما يبدو بأنه تناغم أمريكي إسرائيلي لابتزاز المقاومة للقبول بالورقة التي سماها بلينكن عرض سخي كما أسموها البريطانيين أيضاً التي يتوجب على المقاومة القبول بها الآن.

إن ما تطالب المقاومة به هو ما لخصتها بنود قرارات محكمه العدل الدولية في قرارها الأولي الذي لم تنصاع إسرائيل إلى تنفيذه، وهي ما تمثل إجماع كثر من 90% من دول العالم كما ومشروع قرار مجلس الأمن الدولي الذي أفشلته الولايات المتحدة بالفيتو.

لذلك نتنياهو يراهن على ضعف ردود الفعل وعدم جديتها وعلى غياب ضغط فعلي بإجراءات عقابية على إسرائيل. وبغض النظر عن ذلك إلا أنني أعتقد أن نتنياهو الآن ضعيف جداً ولذلك عندما يكون "نتنياهو الضعيف" يبدو ذلك واضحاً من عنصريته البشعة والاستناد إلى مقولات معاداة السامية وإسرائيل الضحية ولغة جسده المتوترة.

ومن جانب آخر وبالوقت نفسه هنالك خطاب لديهم يقول أن إسرائيل ليست بحاجة في هذه الفترة إلى عملية عسكرية في رفح، هذه العملية هي عملية سياسية وليست عمليه استراتيجية ليس لها علاقه بأهداف الحرب، هذا الآن ما يتم ترويجه في داخل المجتمع الإسرائيلي بدعم من آيزنكوت والمؤسسة الأمنية والعسكرية في إسرائيل، ولذلك آيزنكوت وزير مجلس الحرب يصفها على أنها عمليه لأهداف سياسية وليس لأهداف استراتيجية ولذلك يقول أنني أرى أن محاوله ابتزاز نتنياهو فيما يتعلق بعمليه عسكرية في رفح هي تدخل في إطار الأهداف السياسية وليس مصالح دولة إسرائيل بمعنى أن هنالك محاولة الآن جارية وبدعم أمريكي في نزع الشرعية عن اليمين الإسرائيلي بالذات لتسهيل تنفيذ الرؤية الأمريكية التي ذكرتها. لكن النقطة الأهم لنتنياهو الآن يعلم والكل يعلم في إسرائيل أنه إذا تم هذه المرة إفشال هذه الصفقة لن يكون متسع جديد لإعادة الزمان إلى الوراء. وسيغرق نتنياهو في عين عاصفة الشارع اليهودي بإسرائيل الذي يقول إن عليها أن ترد بشكل إيجابي.

ولكن في نفس الوقت هذه الصفقة تبدو غير مطمئنة لأنه إذا توقف القتال لسته أسابيع وتمت الصفقة معنى ذلك أنه بعد سته أسابيع وتسلمت إسرائيل الأسرى والرهان جميعاً سنعود إلى قصف وجرائم جديدة ومزيد من ارتكاب المذابح في غزة أساساً. أعتقد أنه لا يمكن لحركه حماس وفصائل المقاومة أن تقبل بأقل من أن يكون بالحد الأدنى ضمانات لوقف نهائي لإطلاق النار في المرحلة الثانية أو المرحلة الثالثة مما يعرف باسم الصفقة أو اتفاقية تبادل الأسرى وهذا بالتحديد ما دفع حركه حماس أن تتريث وأن تطلب أولاً بعض الايضاحات لبعض العبارات الواردة في المقترح المصري، حتى يتضح أنه يمكن أن يقود لوقف نهائي لإطلاق النار عند المرحلة الثانية أو الثالثة التي سيتم فيها إطلاق سراح الأسرى والمحتجزين مقابل أسرى فلسطينيين. رغم أن هنالك إمكانية ضئيلة بحسب اعتقادي بأنه عرض يمكن أن تقبل به حركه حماس إذا أغلقت كل الطرق بوجهها. فإن هناك الكثير من الأمور التي يجب أن تستخدم فيها لغة واضحة أو أن يقدم فيها ضمانات دولية مكتوبة أو أن يتم تضمينها في الاتفاق الذي يمكن بعدها أن يتم التوقيع عليه، ولذلك لا أرى أي مبرر لاتهام المقاومة بأنها هي التي تعيق التوصل إلى اتفاق.

أول من أمس الرئاسة الفلسطينية قالت، أنه لولا الدعم الأمريكي لما تجرأ نتنياهو على مواصلة العدوان ولابد للإدارة الأمريكية أن تتدخل فورياً لإلزام إسرائيل بوقف الجرائم وفي مقدمتها إنهاء الاحتلال. ولكن المطلوب من أصحاب القرار بالقيادة الفلسطينية التوقف عن مجاراة أي سراب أو وهم أمريكا وأن يتم رعاية حوار وطني وحدوي جاد بعيداً عن شكل ومضمون لقاءات الفصائل التي تمت، من أجل استكمال توسيع وتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي وفق رؤية وبرنامج وأدوات يتم الاتفاق وطنيا عليها لمجابهة التحديات.

 هذه الحرب كانت بالدرجة الأولى منذ بدايتها قرار أمريكي لكن تطور الحرب وطول أمدها هو الذي جعل الإدارة الأمريكية وبطبيعة الحال بحكم الحسابات السياسية الداخلية التي أشرت لها بالمقال تُشكل عوامل ضغط على الإدارة الأمريكية لكي تحاول أن تضبط سلوك حكومة بنيامين نتنياهو بالوقت الحاضر تمهيداً لتغيير الحكومة الإسرائيلية وتمرير مخططاتها بمنطقتنا.

لكن الموقف العربي حتى الآن لا يرقى إلى مستوى ممارسة ضغط فعلي على مصالح الولايات المتحدة الأمريكية لكي تقوم بدورها بالضغط الجاد، ما يحدث هو العكس أن الولايات المتحدة تضغط على الأطراف الإقليمية والعربية لكي تمارس ضغطاً على حركه حماس والمقاومة لكي تُسلم بالمقترحات والتصورات الإسرائيلية والأمريكية لوقف إطلاق النار بما يضمن لها استمرار عدوانها على شعبنا.

السؤال هنا، هل بلينكن قادر على أن "يُغري" القيادة الإسرائيلية بمثل هذه الصفقة لتحل بدلاً عن اجتياح رفح وأنها ستؤدي إلى الصلح الاستراتيجي لإسرائيل مع الدول العربية وأن تحل المسألة الفلسطينية بما يخدم المصالح الأمريكية في شرق أوسط جديد، لا أعتقد فيه بضمان تحقيق حق تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة كاملة السيادة على كافة الأراضي المحتلة وعاصمتها القدس الشريف وحل قضية اللاجئين وفق القرار 194 .

Loading...