محاولة في تفسير حدود المواجهة بين إيران وإسرائيل


بين فترة وأخرى، يُطرح التساؤل في النقاشات العربية عن طبيعة وحدود الصراع بين إيران وإسرائيل، إذ يبدو أنّ الطرفين المذكورين معنيان بضبط الصراع بينهما، وعدم تركه ينزلق إلى مواجهة مباشرة، أو إلى حرب حقيقية، ما يثير شبهات حول حقيقة السياستين الإسرائيلية والإيرانية، وحدود ما يتوخّاه كل منهما في المنطقة، من دون أن يفهم من ذلك الإيحاء بتبعية أو عمالة ما، إذ أنّ الأمر يتعلق بتقاطع لافت في السياسات.
 
في الحقيقة، ثمة ما يؤيّد تلك الشبهات، لدى الطرفين، إذ ظلت إسرائيل (ومعها الولايات المتحدة بالطبع)، طوال المرحلة السابقة، حريصة على الاستثمار في السياسات التي تنتهجها إيران في بلدان المشرق العربي، من العراق إلى سوريا ولبنان (واليمن طبعاً)، لما يخدم تخريب بنى الدولة والمجتمع، إذ إنّ خلق النظام الإيراني تشكيلات طائفية مسلحة في تلك البلدان يضرّ بها، وبوحدة مجتمعاتها، أكثر مما يضرّ إسرائيل، كما بينت التجربة؛ هذا أولاً.
 
ثانياً، يشمل ما تقدّم السكوت عن محاولة إيران امتلاك قوة نووية، في مقابل ضرب محاولة النظام العراقي السابق امتلاك قوة نووية (1981) في مهدها، علماً أنّ ذلك أتى في ذروة الحرب العراقية ـ الإيرانية، آنذاك، مع ما يحمله ذلك من مغزى، لا سيما مع اقترانها بفضيحة "إيران غيت"، المتعلقة بتزويد إسرائيل أسلحة لإيران في تلك الظروف.
 
ثالثاً، تمثل ذلك الاستثمار، أيضاً، في غض النظر الإسرائيلي (والأميركي) عن الوجود العسكري لإيران، إن مباشرة من خلال "الحرس الثوري" أو بشكل غير مباشر من الميليشيات الطائفية المسلحة التي تشتغل كأذرع إقليمية للنظام الإيراني في المنطقة ("حزب الله" اللبناني وجماعات الحشد الشعبي في العراق على سبيل المثال)، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الولايات المتحدة كانت سلّمت العراق لإيران على بياض، وعلى طبقة من فضة، بعد حلها، أو بعد تفكيكها، كل بنى الدولة، إذ لم يقتصر ذلك على حل سلطة نظام صدام، أو تسريح الضباط، فقط، إذ شمل ذلك حل الجيش والشرطة وكل الأجهزة المدنية، أيضاً. وقد ملأت الفراغ، في حينه، القوى الميليشياوية، التابعة لإيران، التي ساندت الغزو الأميركي للعراق، وهذه لم تكن خطوة عشوائية.
 
رابعاً، واضح أنّ الولايات المتحدة ومعها إسرائيل تبديان صبراً على إيران لاستخدامها كفزاعة إزاء دول الخليج العربي لتعزيز اعتماديتها على الحماية الأميركية، وفرض إسرائيل كلاعب إقليمي مقبول في المنطقة، مع فرض واقع جديد في العلاقات الإسرائيلية- العربية.
 
خامساً، تبعا لما تقدّم، يمكن ملاحظة أنّ الضربات الإسرائيلية التي استهدفت الوجود الإيراني العسكري في سوريا بدأ يتزايد في السنوات القليلة الماضية، في حين أنّ ذلك لم يكن ظاهراً بتلك الحدّة في بداية الوجود الإيراني في سوريا، ما يعني أنّ إسرائيل باتت تتقصّد ذلك، بشكل أكبر، بعد أن استنفد استثمارها في السياسة الإيرانية في سوريا، وبعد أن تمّ تقويض الثورة السورية، أي بعد أن باتت سوريا بمثابة دولة عاجزة وفاشلة، في ظل الوضع الموجود فيها حالياً.
 
أما على صعيد إيران، فهي اشتغلت، أولاً، وفق ما يدعى "استراتيجية الصبر الاستراتيجي"، لتعزيز نفوذها في بلدان المشرق العربي، مستغلة السياسات الأميركية والإسرائيلية، في تلك البلدان، ومستغلة القضية الفلسطينية، وحال التردّي في الحركة الوطنية الفلسطينية، لا سيما مع حاجة بعض فصائلها لدعم خارجي (مالي وتسليحي)، من أجل تشريع وتعزيز وجودها في المنطقة، وتغطية سياساتها فيها بدعوى المقاومة والممانعة، وفلسطين والقدس.
 
ثانياً، طوال المرحلة الماضية، وتحت غطاء استراتيجية الصبر المذكورة، التي تشبه "استراتيجية التوازن الاستراتيجي"، التي أشهرها الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، ظلت إيران تنأى بنفسها عن التورط مباشرة بأي مواجهة مهما كانت حدودها مع إسرائيل، وهو ما كان يفعله الأسد الأب أيضاً، في مقابل الادعاء المستمر بالمقاومة والممانعة، وركوب قضية فلسطين، لكنها كانت، في غضون ذلك، تكتفي بتحريك أذرعها الميليشياوية في سوريا ولبنان والعراق واليمن للردّ عنها، وللتوضيح لإسرائيل والولايات المتحدة انّ لديها أوراق قوة، وهي تتوخّى من ذلك أيضاً، عدم الوقوع في فخ حرب او مواجهة تصل إلى داخل حدودها.
 
ثالثاً، أتى الردّ الإيراني المحدود، في الشهر الماضي، كردّ محسوب ومحدود ومعلن، مسبقاً، وذلك فقط من باب تعزيز صدقية مفقودة، أكّدها نأي إيران، وذراعها "حزب الله"، عن فكرة "وحدة الساحات"، بترك حركة حماس وقطاع غزة، مكشوفين أمام حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل منذ 6 أشهر، وحتى في هذه، فإنّ إيران اعتبرت أنّ ردّها ليس له علاقة بما يجري في غزة، وإنّه ردّ على الاعتداء الإسرائيلي على القنصلية الإيرانية في دمشق (1/4/2024)، الأمر الذي ردّت عليه إسرائيل بالمثل، بردّ محدود ومحسوب ومعلن.
 
تلك هي حدود الصراع بين إسرائيل وإيران، بمعنى أنّ سياسة إسرائيل حيال إيران تتمحور في جانبين:
 
أولاً، إبقاء إيران وميليشياتها كمشكلة في بلدان المشرق العربي في العراق وسوريا ولبنان (بإضافة إلى اليمن)، بمعنى إنّها ليست معنية بإخراجها من تلك البلدان، ولا بتوجيه ضربات مباشرة تكسر الميليشيات التابعة لها فيها، إذ أنّ مصلحتها تقتضي إبقاء الواقع الراهن. ولعلّ ذلك يفسّر كل ما يجري، أي أنّ ما يهمّ إسرائيل في لبنان، مثلاً، هو إزاحة "حزب الله" خلف الحدود، وتقليم أظافره، وعدم السماح بامتلاكه قوة صاروخية، بحسب ما تفيد به التسريبات الجارية حول التفاهمات بخصوص لبنان و"حزب الله"؛ وهذا ينطبق على ما تريده الولايات المتحدة الأميركية أيضا، التي تتقاطع سياساتها ومصالحها مع سياسات ومصالح إسرائيل.
 
ثانياً، كل ما يهمّ إسرائيل هو عدم امتلاك إيران قوة نووية تكسر احتكارها للتسلح النووي في الشرق الأوسط، وقد تشكّل تهديداً مستقبلياً لها، وهذه نقطة خلافية بينها وبين إدارة بايدن، إلى حين توفر ظرف أميركي أو إدارة أميركية تتوافق معها في شأن القيام بخطوة عملية تقوّض المشروع النووي الإيراني. وبحسب الجنرال غيورا ايلند (رئيس مجلس الأمن القومي في إسرائيل سابقاً)، فإنّ "المصلحة الإسرائيلية العليا حيال إيران هي منع السلاح النووي عنها... على الضغط أن يتضمن عقوبات اقتصادية إلى جانب تهديد عسكري (أميركي)، وبالتالي من الصواب أن تستبدل إسرائيل رغبتها المحقة في الهجوم على إيران بالتزام الغرب للعمل في هذا الموضوع". ("يديعوت أحرونوت"، 17/4/2024).

 

Loading...