تعد الانتفاضة الطلابية الحالية حراكاً غير مسبوق في أمريكا منذ احتجاجات الحرب على فيتنام، والتي شهدت مجزرة تعرض فيها طلاب للقتل بعد تعهد نيكسون بسحقهم ثم بعدها انتصر الاحتجاج الشعبي وانسحبت أمريكا من فيتنام في عهد فورد.أما اليوم ومع تزايد واتساع احتجاجات الحركة الطلابية والتي باتت تتسع كحركة احتجاج شعبية عالمية ضد دولة الاحتلال وسياسات الغرب وكشكل متقدم من التضامن الدولي مع قضايا شعبنا وحقوقه. فإن الاحتجاجات والمظاهرات في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا وغيرها من الدول الأوروبية تقابلها أجهزة الدولة باستخدام قوة مفرطه واعتقالات وحظر دخول محاضرين إلى عدد من الدول من قبل أجهزة الأمن ومحاولة فض الاعتصامات بالقوة أسوة بما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية سابقاً، ولكن الدخول في تحدي مع الطلاب في تجارب سابقة وحتى في هذه المرة يبدو مسألة خاسرة للأنظمة.
ففي فرنسا وباريس على وجه التحديد هنالك توافق لأكثر من جهة تشارك اليوم في هذه الحركة الاحتجاجية، هنالك الاتحادات الطلابية وهنالك اليسار الفرنسي، هنالك حتى أعضاء من البرلمان الفرنسي الذين أعلنوا بشكل صريح وواضح عن مساندتهم لهذه الحركة الاحتجاجية، وربما أن التأثر وبشكل كبير بما يحدث في الولايات المتحدة الأمريكية كان واحداً من الأسباب الذي يزيد من زخم الحركة الاحتجاجية. اليوم هذه الحركة وصلت إلى الدول الأخرى إلى بريطانيا، ألمانيا، هولندا، كندا، اليابان، استراليا والمكسيك وغيرها من الدول.
لقد أكدت أنجيلا دافيس وهي من السود وأستاذة بجامعة أوهايو وواحدة من قادة الفكر اليساري التقدمي بالولايات المتحدة، "أن الطلبة هم من يصنعون طريق التغيير، وفلسطين هي معيار اختبار العدالة للجميع وما يحدث اليوم سيضمن العدالة للجميع في العالم في نهاية المطاف".
من الواضح اليوم بأن الحركة الصهيونية ومؤيديها بالغرب يخسرون ساحة الجامعات الأمريكية وحتى الأوروبية بسبب التحولات التي حدثت في صراع اجتماعي سياسي استمر لسنوات عديدة في المجتمع الأمريكي والغربي، وهو صراع متجذر إلى حد كبير في المفاهيم تفوقت به الثقافة التقدمية التي اجتاحت الشباب.
إن الطلاب في كل مكان في العالم أصبحوا متحدين في مواجهة المواقف الأمريكية والاسرائيلية والجرائم المرتبطة بهما. فبعد تظاهرات الولايات المتحدة توالت التحركات في كل مكان تقريباً من دول الغرب. اعتقد أن البدايات وكفاح شعبنا الفلسطيني قد ساهم في ايقاد شعلة احتجاجاتهم المتصاعدة كما يقول قادة الطلبة "بأن فلسطين قد ألهمتنا وقد ألهمنا بعضنا البعض بالنتيجة، وهذا يُظهر أن صوت الشباب والطلاب لديه ما يقدمه ويمكن سماعه إذا تحدثنا بصوت عالٍ وموحد بما فيه الكفاية".
برأيي فإن هذا الحراك الطلابي والشبابي الدولي وما يحمله من معاني التضامن مع نضال شعبنا الفلسطيني ومن عداء منهجي وواعي للسياسات الأمريكية القديمة الجديدة بحق شعوب العالم وحقوقها، ومن افتضاح طبيعة دولة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية التي تنتهك كل المواثيق والقوانين الدولية وترتكب جرائم العنصرية وحرب الإبادة الجماعية وتقف اليوم بناء على ذلك في قفص العدالة الدولية كما قادتها الذين قد يواجهون تهم في محكمة الجنايات الدولية، قد أصبح إلى جانب المتغيرات الجارية بالنظام الدولي والمتمثل في فقدان الولايات المتحدة قدرتها على الهيمنة كما بالسابق، وبدايات تمزق الوحدة الأوروبية في إطار الاتحاد الأوروبي وفق ما أشار له مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيف بوريل قبل أيام. مظاهرات وحركات تتأثر أيضاً بما يجري في فلسطين وأوكرانيا واقتراب هزيمة الولايات المتحدة والناتو الأوروبي فيها مقابل روسيا ووصول دولة الاحتلال إلى مأزق مغلق في حربها بغزة، وهو ما يساهم بالتغيير الجاري بالعالم، وفي تحولات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي لصالح انتصار شعبنا نحو حقوقه وإنهاء الاحتلال.
لكنني لا أعتقد بأن هنالك إمكانيه لأن تتغير السياسة الأمريكية أو البريطانية أو الفرنسية الرسمية فوراً طالما أحزاب اليمين والليبرالية الجديدة ما زالت بالسلطة الحاكمة فيها والتي ساندت إسرائيل منذ تأسيسها على حساب حقوق شعبنا والقرار الأممي 181 وما تبعه من قرارات.
لكن ستكون هنالك تغيرات تتراكم فيها حجم الاحتجاجات الكمية التي ستؤدي إلى تغيير نوعي في بنية أنظمتها السياسية وبنتائج انتخابات كل دولة فيها، وهو أمر جاري في إسرائيل هذه الأيام من مظاهرات يومية تطالب بوقف الحرب وتنفيذ صفقة التبادل واسقاط حكومة اليمين الديني الفاشي.
ولذلك فإن مثل هكذا حركات احتجاجية واسعة عمودها الحركة الطلابية ومن يساندها من القوى اليسارية والتقدمية حتى من بين اليهود أيضاً والآخذة إلى الانتقال عبر الأطلسي بسرعة كبيرة اليوم سيكون له تأثير على مجمل سياسات الغرب الذي بدأ العديد من المسؤولين فيه يدركون تأثير الاحتلال على مجمل قضايا الاستقرار والسلام بالمنطقة وضرورة أن يمارس شعبنا حقه بتقرير المصير.
ويمكن هنا أن أشير إلى مثال واضح متعلق بحرب فيتنام التي على أثرها بدأت ضدها الاحتجاجات من جامعة كولومبيا الأمريكية التي امتدت كحركة معارضة لهذه الحرب إلى فرنسا. فهل يمكن أن يكون تأثير هذه المظاهرات اليوم كما جرى تجاه حرب فيتنام عام 68؟
وللحقيقة فمن اللافت للنظر اليوم أنه في الولايات المتحدة الأمريكية وفق احصاءات معترف بها وموضوعية، فإن الذين تتراوح أعمارهم ما بين 19 عاماً إلى 30 عاماً لا يبدوا أنهم يحملون نفس وجهات نظر الأجيال السابقة بما يتعلق بشكل كبير بانحيازها إلى إسرائيل. هنالك كثير من الفئات الاجتماعية لم تعد تقتنع بخطاب الاعلام الذي تقدمه المؤسسة الحاكمة سواء في أوروبا أو في الولايات المتحدة الأمريكية والتي تشهد اليوم حجم من المعارضة الواسعة داخل الحزب الديمقراطي بفعل نشاط التيار التقدمي فيه إضافة إلى مواقف تضامنية متقدمة تتخذها أحزاب اليسار المعارض في دول الاتحاد الأوروبي تشكل خط دفاع عن قضايا وحقوق شعبنا من خلال ممارسة كل أشكال الضغط الممكن.
إلى جانب ذلك هناك بُعد آخر وهو المتعلق بفترة سابقة بخصوص حضور القضية الفلسطينية بالساحات الدولية الذي كان قد بدأ في التراجع. فإن جرائم إسرائيل اليوم في غزة وباقي المدن الفلسطينية رغم كمية الدماء الفلسطينية النازفة، وما يتبعها من هذه المظاهرات بالعالم واستخدام العنف ضدها من أجل فضها تراه إعادة إحياء حضور القضية الفلسطينية وهذه المرة في العواصم الغربية، بحيث باتت اليوم قضية شعبنا ومشروعه التحرري الوطني بما في ذلك حقه بالمقاومة في مقدمة سلم الاهتمام الدولي لمعظم شعوب العالم إن لم تكن جميعها.
وهنالك إدراك حديث على مستوى النخب السياسية في الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وغيرها، بأنه ما لم يكن هنالك حل للقضية الفلسطينية لا يمكن الوصول إلى حالة الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الاوسط، وهو ما يدفع الولايات المتحدة لمحاولة إنقاذ الخسائر الإسرائيلية متعددة الأوجه ومحاولات تحقيق ما لم يتم تحقيقه عسكرياً بالتحركات السياسية في إطار الرؤية الأمريكية بعد كل أشكال الدعم العسكري لإسرائيل منذ بدء حرب الإبادة.
الثورة الطلابية إن صح تسميتها تتصاعد نحو إعادة اشتعال المظاهرات التي انطلقت بأوروبا منذ بدايات عدوان الإبادة، لتصبح حركة عالمية متمردة على النظام الدولي. ولتصل إلى أعلى درجات التضامن مع غزة وفلسطين وشعبها، وهي درجة الإدراك الواعي بأن العدالة لفلسطين هي مسؤولية كل واحد وواحدة من المتظاهرين في مواجهة، "الدولة العظمى الأمريكية" ودعمها للحرب بكل قوة. وكما يذكر الصديق أمير دخول في إحدى مداخلاته "لقد وضعوا معادلة تقول، أن مقابل كامل مسؤولية الولايات المتحدة المطلقة عن الحرب الإجرامية على غزة، تقف مسؤولية طلبة الجامعات ومعهم أوساط شعبية واسعة جداً تمثل النخب الأمريكية والأوروبية المستقبلية والشابة لتؤكد أنها تتقاسم المسؤولية مع شعب فلسطين في وضع حد لهذه الحرب".