أسرتني المفاجأة!

ترك حديث رسول حمزاتوف عن مقدمات الكتب أثراً كبيراً في نفسي، حتى كدت أكره المقدمات، وطالما قفزت عن مقدمات كتب وأنا أتذكر أن المقدمة تشبه إلى حد بعيد، رجلاً بديناً يجلس في الصف الأمامي في قاعة المسرح، ويضع على رأسه قبعة، فيحجب الرؤيا عن صفوف خلفية تتوق إلى مشاهدة المسرحية ومتابعتها بنهم وشغف، لكني روّضت نفسي للتحرر من رسول، فربما يجلس البدين أحياناً في صفوف خلفية، وتجلس فاتنة في المقدمة لتزيد على العرض جمالاً وجلالا، وهذا ما حدث في غير مرة، إلى  أن حلّت ليلة أمس، عندما قررت أن أطلّق مقولة رسول طلاقاً بائناً بينونة كبرى.

عدت بالأمس أحمل بيدي نسخة مهداة من أخي وصديقي الدكتور عبد الخالق عبد الله: "رحلتي إلى هارفرد"، وكنت التقيت بصحبته زوجته الكريمة الدكتورة ريما الصبان للمرة الثانية بعد أن صحبني صديقي بعد جلسة في مقهى "ليتّو" في "مردف سيتي سنتر" استمرت ساعات، إلى حيث كانت زوجته تجلس في مقهى آخر، وقدمني إليها وصافحتها واستأذنت، كان اللقاء عابراً، ولم يستمر أكثر من دقائق معدودة، ولكن ليس هذا ما حدث بالأمس الذي شهد حوارات في العام والخاص، وهناك في أبو ظبي عرفت أن "أم خالد" هي الدكتورة ريما الصبان التي قفزت عن تقديمها لكتاب صاحبي "آخر إماراتي في نيبال"، ولكن في هذه المرة عرفت اسم "أم خالد"، وقررت أن أقرأ مقدمتها.

عدت إلى بيتي بعد منتصف الليل، أعددت فنجاناً من القهوة، أشعلت سيجارة، فتحت على المقدمة وأخذت أقرأ، العبارة الأولى تقول: "أخذتني المفاجأة"، أخذتها هي ولست أنا، وتساءَلَت: لماذا أنا؟ لماذا هي، لماذا اختار صاحبي زوجته لكتابة المقدمة، وليس من صحبه الكثر من رجالات الأكاديميا أو السرد والكتابة، المهم أنني أخذت أقرأ، أنا أيضاً "أخذتني المفاجأة"، مفاجأة اسمها " قلم أم خالد"، توقفت عن القراءة لبرهة لأرى كم تبلغ عدد صفحات المقدمة، وجدتها 27 صفحة، وعدت إلى القراءة دون توقف، كيف أتوقف وقد نصبت هذه المرأة عوداً من "الدبق" اللزج الذي كنا ننصبه لاصطياد العصافير على أغصان الشجر، ما أن تقف عليه، حتى تحاول الطيران والإفلات من الفخ، لتلتصق أجنحتها على العود. هذه المقدمة لا تشبه المقدمات، كان حري بصاحبتها أن تسميها "بدلاً من المقدمة".

قلما قرأت في حياتي مقدمة لا تشبه المقدمات، أدب شيق، نص محرّض، سردية جذابة، لغة متمكنة رصينة، نص محلق متوثب، خيال شفيف يطلق عنان المخيلة، احتفاء بالمكان، استعادة للتاريخ، تبجيل للطبيعة، فائض محبة، إنه نص طلقت فيه "أم خالد" الأكاديميا وهي تتحدث عنها، ولكن طلاقها للأكاديميا رجعي يمكن لها أن تعيدها إلى حياتها بعبارة "أعدتُّكِ"، أو بقبلة على غلاف كتاب أكاديمي، فالهدف من الطلاق عندما همّت بالكتابة، هو التحرر من قيود الأكاديميا، وارتكاب فعل الجنون، ومنع الأكاديميا من التدخل في النص أو التأثير عليه، ولذك قررت التحرر منه رغم عملها الأكاديمي عشرات السنين، واختارت التحليق في حضن الخيال والواقع.

يبدو أن الدكتورة ريما قررت وهي تكتب ما سمي بالمقدمة، أن تكون ريما، الحبيبة ريما، والرفيقة ريما، والزوجة ريما - بلا دال نقطة - ويبدو أنها فضلت "ريما" على "أم خالد"، فالمكان محفز لاستعادة تاريخ علاقة شراكة ناجحة في الحياة عمرها أربعة عقود من الزمن، علاقة بدأت خيوطها تقطّب في أم ذلك المكان الذي تنقلت فيه بصحبة عبد الخالق - قبل الدال نقطة - يوم كانا على مقاعد الدرس.

رافقت ريما زوجها لمدة أشهر في هارفرد دون أن تفكر في أن تسعى للانضمام إلى كبار الأسالتذة الزائرين إلى هارفرد، ويبدو أن عدستي ريما كانتا مقعرتين ومحدبتين، ويبدو أنها ركبت "زوم" على عينيها، وربما تكون قد استخدمت "درابيل" أو العين الثالثة، وربما بدأت في كتابة النص في الذاكرة وهي ما زالت في هارفرد، وبوسطن، ونيو هامبشير، وفيرمونت،  وحملتها جبال الأباليشيان إلى سحر رمال الإمارات في صحرائها المدهشة.

دفق من الحب للخالق، وعبد الخالق، وغزل بالطبيعة كأنها تتغزل بصوفية محدّثة في الإله الذي أبدع جمال هذه الطبيعة ومفاتنها، كانت ترقص بالكلام كما يرقص "الرومي". نص مترف بالجمال، عاشق ينصف المعشوق، رقي وذكاء في انتقاء المفردات وصياغة العبارات، ساردة متمكنة، والنص يقول في بعض الأحيان شيئاً، ولكنه يقصد شيئاً آخر، والنص يترك للقارئ في كل صفحةٍ عبارة تقول: وهلمّ جرا، وسأعيد الليلة قراءة النص مرة أخرى على مهل، لأن قراءتي بالأمس كانت قراءة ملهوف، ومشاعري كانت تشبه مشاعر العصافير التي علقت على أعواد "الدبق" ولم تعرف التحرر منها، ربما أشرب الليلة أكثر من فنجان، وأشعل أكثر من سيجارة.

كلمات مفتاحية::
Loading...