"حماس" أمام خيارات محدودة ومكلفة للفلسطينيين

ستسجل الحرب الإسرائيلية في غزة كحدث تاريخي مفصلي يؤسس لما بعده على صعيد الحركة الوطنية والصراع بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، وربما لأبعد من ذلك، بما يشمل تحديد مكانة إسرائيل في المنطقة، وشكل العلاقات العربية- الإسرائيلية، ومستقبل الترتيبات الأميركية في الشرق الأوسط، وهذا هو المعنى الأدق، على الأرجح، لما يسمى "اليوم التالي" للحرب في غزة.

القصد أن تلك الحرب ستسجل في التاريخ بقدر الحربين الأكثر أهمية في سلسلة حروب إسرائيل (1948 و1967)، إذ أسست الأولى للنكبة وولادة دولة إسرائيل ونشوء مشكلة اللاجئين. فيما أسست الثانية لتكريس إسرائيل كدولة معترف بها في العالم العربي، وصعود الحركة الوطنية الفلسطينية، وتاليا ترسخها ككيان سياسي يمثل الفلسطينيين. وهي أيضا ستسجل بقدر المنعطفين التاريخيين الناجمين عن انتفاضتي الأراضي المحتلة، في الأعوام (1987-1993 و2000-2004)، إذ نجم عن الأولى توقيع "اتفاق أوسلو" في 1993 وتحول الحركة الوطنية من حركة تحرر وطني إلى سلطة، مع انحسار دور "منظمة التحرير"، وتهميش قضية اللاجئين، لصالح التركيز على إقامة دولة مستقلة في الضفة والقطاع المحتلين عام 1967 في جزء من أرض لجزء من شعب مع جزء من حقوق، في حين نجم عن الثانية صعود "حماس" في المشهد الفلسطيني كمنافس ومنازع لحركة "فتح"، على المكانة والقيادة والسلطة، مع كل ما مثله ذلك الصعود من تغيير في طبيعة الحركة الفلسطينية، وتغير أشكال كفاحها وخطاباتها، وحال الانقسام الذي فرضته على المستوى الشعبي وفي إطار النظام السياسي الفلسطيني، ونسبة للارتباطات الخارجية.

حركة وسلطة

كانت "حماس" انطلقت في مطلع الانتفاضة الأولى (1987)، كامتداد لجماعة "الإخوان المسلمين" الفلسطينيين والأردنيين، وهي لم تنخرط في الكفاح المسلح الذي أطلقته "فتح" في منتصف الستينات، وإنما بعد ذلك بـ22 عاما، كما أنها لم تنضو في الإطار الجامع "منظمة التحرير"، الأمر الذي يفسر التداعيات الناجمة عن ذلك، والتي عكست نفسها، فيما بعد، في الخلافات الداخلية، وفي التنافس والتنازع بينها وبين "فتح"، ما أوصل لاحقا إلى الاختلاف ثم الاقتتال والانقسام في النظام الفلسطيني.

شكلت "حماس" بعد فترة وجيزة من انطلاقتها منافسا لـ"فتح" التي طبعت الحركة الفلسطينية بطابعها لعقود، وتغلبت عليها في الانتخابات التشريعية (2006)، ما أهلها لتشكيل الحكومة الفلسطينية، التي لم يكتب لها النجاح، بسبب طبيعة النظام السياسي الذي يركز السلطات بيد الرئيس، والخلاف بين أجندة الحركتين، وأيضا بحكم استعصاء خيار "فتح" بسبب تملص إسرائيل من عملية التسوية، إلا أن "حماس" أخفقت في كثير من الملفات، وظلت تفتقد لاستراتيجية سياسية وكفاحية ملائمة وواضحة، وفوق ذلك تحولت إلى سلطة في غزة، من دون أن تقدم نموذجا أفضل من ذلك الذي لغريمتها "فتح" في الضفة.

ولعل مشكلة "حماس" كسلطة عدا عن احتكارها الموارد والقرار والسلاح في غزة، أنها حاولت بطرق وإجراءات قسرية فرض سلوكياتها ورؤاها في العيش على الفلسطينيين في غزة، ما أثر على شعبيتها خارج دائرة منتسبيها، وتغليب النظرة إليها كتيار إسلامي على كونها حركة وطنية.
وعليه، فقد ظلت تلك الحركة حائرة بين كونها حركة سياسية أو حركة دينية، ثم بين كونها حركة وطنية أو حركة للإسلام السياسي، كما بين كونها حركة تحرر أو سلطة، إذ لكل طابع متطلباته ووظائفه واستهدافاته.
نتيجة كل ذلك، لم تنجح "حماس" في إدارتها للمجتمع في الإقليم الذي تسيطر عليه، مع طغيان الأجهزة الأمنية، وفرض الضرائب، وتغليبها البعد العسكري في إدارتها، على حساب البعد المتعلق بالتنمية الاجتماعية والاقتصادية، حتى إنها لم تأخذ بالانتقادات التي توجهها إلى سلطة "فتح" في الضفة، إذ احتكرت التقرير في الخيارات السياسية، وعملت على إضعاف المجتمع المدني، وبذلك، فهي لم تنجح في بث الثقة بشأن إمكان تحول الحركات الإسلامية إلى الديمقراطية، التي تتضمن احترام الرأي الآخر، وإغناء التنوع والتعددية في المجتمع، والقبول بالمشاركة وبمبدأ تداول السلطة.
وبالطبع فقد كان بإمكان هذه الحركة الاستغناء عن التورط في السلطة، والبقاء كحركة تحرر وطني، وكحركة مقاومة، والحفاظ على نفسها ككتلة وازنة في المجلس التشريعي، وكقوة ضغط على القيادة الفلسطينية، كما كان بإمكانها عدم أخذ السلطة بالقوة، حتى لو كانت تملك ذلك، تجنبا للمخاطر الحاصلة، لأن العالم الذي دعم "اتفاق أوسلو" (1993) لن يسمح لها بأخذ السلطة، ولا بفرض أجندتها.
بيد أن أهم شيء لم تستطع تلك الحركة إدراكه هو التعامل بواقعية مع قطاع غزة، الضيق (1.3 في المئة من مساحة فلسطين و6 في المئة من مساحة الضفة)، والفقير في الموارد، والذي يقطن فيه أكثر من مليوني فلسطيني، إذ تعاملت معه ليس فقط كـ"منطقة محررة"، وإنما كـ"قاعدة لتحرير فلسطين"، أيضا، أو كـ"قاعدة للمقاومة ودحر الاحتلال من الضفة"، وفقا لنمط الحرب الصاروخية، الأمر الذي أدى إلى قيام إسرائيل بفرض حصار مشدد على قطاع غزة منذ عام 2007، مع شن عدة حروب مدمرة عليه (2008، و2012، و2014، و2021، و2023 المستمرة حتى الآن).

وكان ثمة خيار أمام "حماس" بإمكان تحويل قطاع غزة إلى منطقة محررة، بإدارة فلسطينية راشدة، تقدم للعالم نموذجا للدولة الفلسطينية المنشودة مستقبلا، مع الاهتمام بمسائل التعليم والتنمية، وبناء المؤسسات، وبحيث تصبح تلك المنطقة قبلة لكل الفلسطينيين في العالم، ما قد يشكل رصيدا مستقبليا هائلا للعملية الوطنية الفلسطينية الرامية لتحقيق كامل الأهداف الوطنية للفلسطينيين، في ظل المعطيات الدولية والعربية المناسبة.
تبعا لما تقدم فإن "حماس" ظلت تتعامل مع قطاع غزة، كأنه منطقة معزولة عن العالم وعن الواقع وعن المعطيات الدولية والعربية، وفقا لعقلية قدرية وإرادوية، وعقلية تنطوي على مبالغة في القدرات والمراهنات غير الواقعية، ووفق هاجس أساسي يتمركز على انتزاع مكانة السلطة والقيادة من "فتح"، دون أن تحدد ما تستطيعه وما لا تستطيعه، ودون أن توضح لشعبها ما تريد، وكيفية تحقق ما تريده. هكذا، ظلت تتحدث عن "زلزلة الأرض تحت أقدام إسرائيل"، و"قواعد الاشتباك"، و"الردع المتبادل"، و"توازن الرعب"، و"وحدة الساحات"، رغم أنها لم تستطع رفع الحصار عن القطاع، ولا تجنيب الفلسطينيين فيه القتل والدمار في الحروب المتواصلة، ورغم أن أوضاع الفلسطينيين ظلت تزداد بؤسا، نتيجة كل ذلك.

الحاصل أنه ورغم كل تعقيدات تلك التجربة الصعبة والمعقدة والخطيرة، فإن "حماس"، مثل كل الحركات السياسية في عالمنا العربي، إسلامية أو علمانية، يسارية أو يمينية، وطنية أو قومية أو أممية، لم تعتد على المراجعة والنقد، مع فارق آخر بالنسبة لحركات الإسلام السياسي، يكمن في محاولتها إضفاء نوع من القدسية على سياساتها ومواقفها، بحيث تخرج نفسها من إطار المساءلة والنقد والمحاسبة، وبدعوى تقديس التضحية.

من معركة إلى حرب ونكبة

بدأت الحرب باقتحام "كتائب القسام" الجناح العسكري لـ"حماس"، المستوطنات والقواعد العسكرية الإسرائيلية الواقعة في غلاف غزة، في معركة بدا أنها أعدت جيدا، مما شكل ضربة أمنية واستخباراتية وعسكرية كبيرة وغير مسبوقة لإسرائيل، مع تكبيدها خسائر بشرية كبيرة، مع قتلى يناهز عددهم 1200 وأسر 234، بين مدنيين وعسكريين.
بيد أن معركة "حماس" استغرقت ساعات فقط، إذ سرعان ما حولتها إسرائيل إلى حرب مدمرة، منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، أي منذ أكثر من مئتي يوم (ولا زالت)، ثم إن "حماس" تحولت من الهجوم إلى الدفاع، بعد أن انتقلت المبادرة بالهجوم إلى الجيش الإسرائيلي، وبينما كانت مستوطنات غلاف غزة ساحة المعركة فإن ساحة الحرب باتت في كل مدن قطاع غزة.
وفي المحصلة فإن "حماس"، لم تستطع الدفاع عن شعبها، ولا كبح تقدم الجيش الإسرائيلي في كل المناطق، ولا الحؤول دون نزوح كتلة كبيرة من الفلسطينيين من منطقة إلى أخرى، ومغادرة أكثر من مئة ألف لغزة، كما لم تستطع صد قدرته على تدمير القطاع، بنسبة 70 في المئة، إن لم يكن أكثر، ضمن ذلك بيوت أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، والمستشفيات والمدارس والجامعات والمباني العامة، والشوارع، والبني التحتية، مع قطعها إمدادات الماء والغذاء والكهرباء والوقود والدواء عن معظم مدن القطاع، بحيث بات فلسطينيو غزة إزاء حرب إبادة جماعية تشنها إسرائيل عليهم أمام سمع العالم وبصره.

ومع قدرتها على ضمان استمرار الاشتباك، وحرمان الجيش الإسرائيلي من تحرير أي رهينة، فإن تلك التجربة، التي تمخضت عن نكبة مهولة، بينت أن قيادة "حماس" لم تحسب جيدا، من كل النواحي، لتلك المعركة- الحرب، بتهيئة مجتمعها، وتحصينه إزاء ردود الفعل الإسرائيلية، كما لم تحدد العنوان المناسب لتلك المعركة، فظنتها (حسب خطاب الضيف قائد كتائب الأقصى يوم 7 أكتوبر) "معركة تحرير" أو "من أجل دحر الاحتلال"، وكـ"يوم موعود لهزيمة إسرائيل"، مع دعوة "كل الفلسطينيين من النهر إلى البحر وفي بلدان اللجوء، والأمتين العربية والإسلامية للمشاركة فيها بكل الوسائل".
أيضا، فإن ما تسبب في إخفاق "حماس" خلطها بين المقاومة والحرب، علما أن المقاومة غير الحرب، جيشا لجيش، وكصاروخ في مواجهة صاروخ، وكان ثمة خيار لخوض المقاومة وفقا لقواعد حرب الشعب، و"اضرب واهرب"، و"حرب الضعيف ضد القوي"، باستهداف نقاط ضعف العدو، وتجنب نقاط قوته، وتحييد جيشه ما أمكن ذلك، لا تسهيل استخدامه ترسانته العسكرية، وانتهاج عمليات تؤدي إلى تفكيك مجتمعه، أو تعزز التناقضات فيه، بدل أن توحده، والتي تمكن من استنزافه، لا استنزاف مجتمعها، وهي مقاومة متدرجة وطويلة الأمد، تسمح باستثمار التضحيات والبطولات لا تبديدها، أو تكبيد شعبها أضعافها.
وفي نظرة واقعية، فنحن إزاء حركة فلسطينية شنت، أو استدرجت إلى حرب، بالضربة القاضية، تختلف عن المقاومة بشروطها وإمكانياتها وتداعياتها، نجمت عنها نكبة جديدة للشعب الفلسطيني، وهذا لا علاقة له بطبيعة "حماس"، إذ ينطبق عليها ما ينطبق على "فتح" أو الجبهات "اليسارية"، لجهة تقييم الخيار السياسي أو الكفاحي، ومدى صحته ومواءمته للظروف، فلسطينيا وعربيا ودوليا، وإمكان تثمير التضحيات في إنجازات سياسية.
وباختصار، فإن "حماس"، التي تقول إنها نجحت في معركة على المستوى التكتيكي، لم تكن موفقة، من ناحية استراتيجية في خيارها بتلك الهجمة، لعدم تقديرها قوة إسرائيل، وعدم إدراكها الضمان الدولي لأمنها وتفوقها، ولانفصامها عن الواقع العربي غير المواتي البتة، ولأنها لم تهيئ شعبها في غزة لهكذا معركة طويلة ومهولة.

الماضي لا يعود

بحسب إسرائيل، فإن هدف حربها ضد قطاع غزة هو القضاء على "حماس"، وتحرير الرهائن الإسرائيليين لديها، والحؤول دون نشوء واقع يسمح بتكرار 7 أكتوبر جديد، بيد أن حرب الإبادة التي تشنها، منذ سبعة أشهر تقريبا، وما زالت، تفيد بأن الهدف الحقيقي لتلك الحرب هو ترويع الفلسطينيين من النهر إلى البحر، وتكريس هيمنة إسرائيل في أرض فلسطين التاريخية، وتحويل قطاع غزة إلى منطقة غير صالحة للعيش، والتخفف ما أمكن من ثقل الكتلة الديموغرافية الفلسطينية في قطاع غزة، قسرا أو طوعا (بالوسائل القسرية أيضا).
ولئن كانت تلك هي أهداف إسرائيل الحقيقية، فإن خيارات "حماس"، محدودة في محاولتها تفويت تلك الاستهدافات، فهي لا تمتلك إمكانية هزيمة الجيش الإسرائيلي، ولا يمكن توقع ذلك منها أصلا. أيضا فإن "حماس" لا تستطيع صد هجمة إسرائيل على أي مكان في قطاع غزة، ولا تملك القدرة على حماية شعبها فيه، كما بينت التجربة المريرة والكارثية. ثم إن قدراتها باتت تتآكل مع الاستمرار في المواجهة، وبالنظر للضغط الكبير، المعيشي والأخلاقي والسياسي، الناجم عن خراب حياة أكثر من مليوني فلسطيني باتوا نازحين، خارج بيوتهم، مع افتقادهم للمقومات الأساسية للعيش، بالإضافة إلى الضغوط الموجهة لها دوليا، وعزلتها على الصعيد العربي.
هكذا، نحن إزاء مفترق تاريخي على غاية من الأهمية في حياة الشعب الفلسطيني، وحركته الوطنية، بيد أن السؤال هنا، والآن، هو عن مصير "حماس" بعد تلك الحرب، أو النكبة، المهولة، التي تعتبر الأطول والأشد فتكا وتدميرا بالفلسطينيين.

وفي المحصلة فإن "حماس" تقف اليوم أمام خيارات محدودة، والمشكلة أنها لم تعدّ نفسها لخطة خروج، أو انسحاب، لوقف حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل، وتفويت استهدافاتها في هذه الظروف والمعطيات غير المواتية، سيما أنها مع كل ما حصل لا تستطيع أن تفرض شروطها، وهي لم تستطع ذلك في الحروب السابقة، الأقل هولا من الحالية، أما ورقة الرهائن الإسرائيليين، فقد تبين أنها ضعيفة، ولا يعول عليها، بعكس مراهنات "حماس"، وهذا ينطبق على المراهنة الواهية على "وحدة الساحات"، التي لم تثبت، ولم تؤثر على إسرائيل إلى درجة دفعها لتخفيف حربها ضد الفلسطينيين، أما إيران فظلت متمسكة بالنأي بالنفس عن تلك الحرب، وعن الصدام مع إسرائيل والولايات المتحدة، كما تبين بالتجربة، بعد قصف إسرائيل للقنصلية الإيرانية في دمشق، والرد المحدود المتبادل، بتفاهم أميركي.

هكذا، فإن "حماس" باتت في معضلة، مع وجود هدنة من عدمها، ومع توقف الحرب أو عدم توقفها، فحتى لو أوقفت إسرائيل عدوانها على غزة، فإن ذلك القطاع لم يعد موجودا، ربما بنسبة 70 في المئة أو أزيد، بشريا وعمرانيا واقتصاديا. وهذا ينطبق على خواء مقولة العودة إلى واقع ما قبل 7 أكتوبر، أي قبل الحرب، لأنه لا يمكن إعادة الماضي، وما خرب، وما أبيد، وحتى "حماس" لم تعد هي ذاتها قبل الحرب. وفي المحصلة فإن قطاع غزة يحتاج إلى عشرات السنين، وإلى عشرات المليارات من الدولارات، كي يعود إلى تلك الحقبة، إذا سمحت الظروف والمعطيات والموارد الفلسطينية والإسرائيلية والعربية والدولية بذلك. ويفاقم من ذلك أن كل الأطراف، النافذة والفاعلة والمقررة، تعلن أنها لا تريد أن تكون "حماس" في المشهد، كشرط لأي حديث جدي عن اليوم التالي للحرب، أو للنكبة.

سيناريوهات اليوم التالي

على ضوء ما تقدم يمكن مناقشة مستقبل حركة "حماس"، وضمنه تخيل سيناريوهات للخيارات السياسية الماثلة أمامها، بعد كل ما جرى، وفقا للأسس والمعطيات الواقعية، بعيدا عن العواطف والرغبات والعصبيات الفصائلية أو الأيديولوجية، وذلك وفقا للآتي:
أولا، سيناريو الخروج أو الانسحاب المشرف. وقد شهدنا مثله في التجربة التاريخية للحركة الوطنية الفلسطينية، من الأردن (1970)، إلى لبنان (1982)، ومع التحول من حركة تحرر إلى سلطة بتوقيع "اتفاق أوسلو" (1993)، سيما أن ثمة تسريبات تفيد بحديث عن خروج قياديي "حماس" في غزة إلى الخارج، وهو أمر لا يبدو أن الحركة ستوافق عليه إلا وفق ترتيبات معينة، فلسطينية وعربية ودولية، على الأرجح، وهذا يعني أن "حماس" ستبقى كحالة سياسية وفكرية، بوصفها جزءا من نسيج الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، أي إنها لن تختفي.
ثانيا، سيناريو الاندماج، أي استيعاب "حماس" في الجسم الجامع للحركة الوطنية الفلسطينية، أي في "منظمة التحرير" وفي السلطة، مع قبولها بحل الدولة الفلسطينية، وهذا وضع يلائم تلك الحركة، ويلائم الفلسطينيين، سيما في غزة، لكنه قد يلقى بعض الاعتراضات العربية والدولية، كما أنه من المشكوك فيه، تبعا لذلك، أن توافق القيادة الفلسطينية على هكذا وضع إلا بشروط تحجيم "حماس" ربما، بضمها إلى جسم "منظمة التحرير"، وبمعزل عن أي دور سلطوي، أو في حكومة السلطة، في حال كان هناك قبول عربي ودولي بذلك.

ثالثا، سيناريو وجود قوة عربية ودولية، وهو خيار بات مطروحا، سيما مع إصرار إسرائيل على وجود مرحلة انتقالية، قد تفضي فيما بعد، أو لا تفضي، لتسليم غزة إلى السلطة الفلسطينية، وهذا الخيار يجري تداوله، باعتبار أنه سيتم تحت رعاية دولية تؤمن الحماية والرعاية للفلسطينيين وتقديم المساعدات لهم، وإعادة إعمار غزة.
رابعا، "حماس" كـ"حزب الله فلسطين"، ففي مرحلة ما ربما باتت "حماس"، أو اتجاهات فيها، تميل نحو استنساخ تجربة "حزب الله" في لبنان، وميليشيات منظمات "الحشد الشعبي" في العراق، على اعتبار أن ذلك يجنبها تبعات أو شبهات السلطة، ويمكنها من التحرر من مسؤوليتها إزاء ما يترتب على ذلك، ويتيح لها بالتوازي تعزيز مكانتها كحركة مقاومة، وعلى ما يفترض أنه يعزز من مكانتها عند الشعب الفلسطيني، وفي الضغط على القيادة الفلسطينية، وفرض قيود على خياراتها السياسية (كما في لبنان). المشكلة أن هذا الخيار، الذي كان متاحا سابقا، ربما، بات صعبا إن لم يكن مستحيلا، بعد حرب أو نكبة غزة، بالنسبة لكل الأطراف المعنيين. وأيضا على الصعيد الشعبي قد لا يجد ذلك قبولا من القطاع الأوسع من فلسطينيي غزة، سيما الذين يريدون التركيز في تدبر أحوالهم، بعد أن فقدوا كل شيء.
خامسا، سيناريو الخيار الأقصى، أي استمرار القتال حتى النفس الأخير، وفقا لشعار أنه "جهاد فإما نصر أو استشهاد"، وهذا خيار بطولي، لكنه مأساوي أيضا، إذ لدى إسرائيل موارد ذاتية أكبر بما لا يقاس بالنسبة لـ"حماس"، مع فائض دعم من أقوى الدول في العالم.
طبعا، ثمة بدائل إسرائيلية مختلفة، منها عودة الاحتلال والاستيطان إلى غزة، أو فرض إدارة مدنية إسرائيلية أو من جهة مقربة لها عليه، والإبقاء على غزة منفصلة عن الضفة، وتهجير جزء كبير من سكانها إلى الخارج.
على ذلك فإن كل الخيارات، أمام "حماس"، صعبة ومكلفة ومأساوية، لها وللفلسطينيين، ما يفترض البحث عن خيارات تمكن من تفويت الأهداف الإسرائيلية المذكورة، سيما أن "حماس" لم تعد في وضع يمكنها من فرض أي شروط، بل ويخشى أن كل تلك السيناريوهات لا تجنب الفلسطينيين تداعيات النكبة الجديدة، وإنما قد تخفف من وطأتها مستقبلا، إذ للأسف لا يوجد اسم آخر لما أحاق بفلسطينيي غزة خاصة، والفلسطينيين عموما.

 

Loading...