بقاء السوريّين في لبنان… ومشروع الفتنة

في منطقة مقبلة على تغيير معالمها في ضوء حرب غزّة، يتصرّف معظم اللبنانيين، للأسف الشديد، وكأنّ هجوم “طوفان الأقصى”، الذي شنّته “حماس”، وما تلاه من حرب وحشيّة إسرائيليّة على غزّة، كانا مجرّد حادث سير عابر. تحلم “حماس” بالعودة إلى غزّة وكأنّ شيئاً لم يكن، علماً أنّ عالم ما قبل “طوفان الأقصى”، أي عالم ما قبل 7 أكتوبر (تشرين الأوّل) الماضي ما زال قائماً. في الوقت ذاته، تحلم إسرائيل بتحقيق انتصار على “حماس” عن طريق إزالة غزّة من الوجود. مثل هذا التصرّف يفجّر منطقة تعرف إيران وحدها كيف استغلال الفرص فيها.

في ظلّ هذه الصورة القاتمة، هناك عالمان لبنانيان لا علاقة لأيّ منهما بالآخر. عالم اللبنانيين الذين يسعون إلى التعاطي مع الواقع… وعالم اللبنانيين الذين يتصرّفون على طريقة “حماس” التي ترفض الاعتراف بالنتائج المترتّبة على “طوفان الأقصى” الذي أدخل إسرائيل نفسها في أزمة عميقة معروف كيف بدأت وليس معروفاً هل تخرج منها يوماً.

عندما يُطرح في لبنان موضوع الوجود السوري، يظهر رفض للتعاطي مع الواقع. هذا الرفض أوصل البلد إلى ما وصل إليه، أي أنّه كشف سقوطه تحت الاحتلال الإيراني الذي يعبّر عنه سلاح الحزب الذي في أساس كلّ المصائب اللبنانيّة، بدءاً باغتيال مشروع رفيق الحريري الذي أعاد الحياة إلى البلد، مروراً بالسابع من أيار 2008، أي “اليوم المجيد”، من وجهة الأمين العامّ للحزب، وهو اليوم الذي كرّس سقوط بيروت في يد “الجمهوريّة الإسلاميّة” وتكريس بيروت مدينة إيرانيّة على المتوسّط يعمل منها الحوثيون بحرّيّة في حماية الحزب ورعايته.

من هذا المنطلق وفي هذه الظروف الداخلية والإقليميّة، وحتّى الدوليّة، لا يمكن إلّا تقدير جهود رئيس الحكومة نجيب ميقاتي التي أدّت إلى حصول البلد على مليار يورو تُصرف في أربع سنوات في مجال مساعدة البلد في تحمّل عبء اللاجئين السوريين. إنّه عبء لا يُحتمل ويشكّل تهديداً للبنان. لكنّ التصدّي لهذا العبء لا يكون بالمزايدات والحملات ذات الطابع العنصري بمقدار ما يكون بالسعي إلى فهم ما يدور في المنطقة، بما في ذلك في سوريا حيث يوجد نظام كان وراء تدفّق كلّ هذا العدد الكبير من اللاجئين على لبنان.

صحيح أنّ خطوة نجيب ميقاتي ليست سوى خطوة صغيرة في الاتّجاه الصحيح، أي في اتّجاه مساعدة لبنان على الانتظار، لكنّ الصحيح أيضاً أنّه يفترض في اللبنانيين السعي ولو لمرّة إلى فهم أنّ الأزمة الناجمة عن وجود مليون ونصف مليون سوري على أراضيه، حسب تقديرات الأمم المتحدة، ليست وليدة البارحة. يصرّ النظام السوري، بدعم إيراني واضح، على تهجير أكبر عدد من السوريين من سوريا، وذلك منذ اندلاع الثورة الشعبيّة في آذار 2011. بكلام أوضح، لا يريد النظام الأقلّويّ عودة مهجّرين من السُّنّة إلى سوريا. تلك هي الفكرة التي لا يمكن تجاهلها عندما يتعلّق الأمر بالعبء الذي يشكّله النزوح السوري إلى لبنان، وهو بالفعل عبء لا يُحتمل. قد يكون مفيداً من أجل السعي إلى فهم أزمة الوجود السوري في لبنان الاستعانة بالنقاط الآتية:

– أوّلاً: يرفض النظام السوري عودة أيّ لاجئ من دون الحصول على أموال من المجتمع الدولي.

– ثانياً: ثمّة شروط سياسية يطرحها النظام تتحكّم بهذه العودة، من بينها رفع العقوبات الأميركيّة والأوروبيّة عنه.

– ثالثاً: لا يريد الحزب عودة السوريين نظراً إلى أنّه يستخدمهم في الضغط على المسيحيين في لبنان عبر إحياء صورة اللاجئ السوري الذي حلّ مكان اللاجئ الفلسطيني الذي حمل السلاح في سبعينيات القرن الماضي ولعب دوراً كبيراً في الحرب الداخليّة التي اندلعت في 13 نيسان 1975. أكثر من ذلك، لا يريد الحزب عودة عدد كبير من اللاجئين السوريين إلى بلدهم، بعدما حوّل مناطق هؤلاء إلى معسكرات تدريب ومستودعات لأسلحة إيرانيّة ومصانع كبتاغون وغير ذلك…

– رابعاً: لا رغبة إيرانيّة في عودة سوريّين إلى سوريا من منطلق أنّ معظم هؤلاء من السُّنّة. إنّ عودة أكثر من مليون سوري إلى سوريا وإلى بيوتهم سيخرّب مشروع إيران التي لا تريد مثل هذه العودة. سيخرّب ذلك مشروعاً لـ”الحرس الثوري الإيراني” في شرق المتوسّط كون بين هؤلاء اللاجئين مئات الألوف الذين يتحدّرون من شرق سوريا، من دير الزور والبوكمال والميادين تحديداً. هذه مناطق حوّلها “الحرس الثوري” إلى مناطق استيطان لمجموعات من المتطرّفين الشيعة من الباكستانيين والأفغان الذين أتوا إلى أرض سوريا كي يهدّدوا النسيج البشري للمجتمع السوري، وكي يخلقوا هاجس تهديد لإسرائيل. كذلك كي يكونوا جسراً بشريّاً بين جسور تربط بين إيران والبحر المتوسط. الأهمّ من ذلك كلّه استخدام إيران لهؤلاء في سياق تحويل سوريا إلى دولة فاشلة نهائياً على غرار ما حصل في لبنان واليمن والعراق. هذه دول باتت تتحكّم بها ميليشيات مذهبية تنشر التخلّف والعنف وتعمل على تفتيت النسيج البشري.

يبقى حصول لبنان على مليار يورو أفضل من لا شيء. يعرف الاتحاد الأوروبي كيف صرف المبلغ بعيداً عن الفساد وبعيداً عن الفكر الساذج الذي يرفض السعي إلى معرفة لماذا يوجد لجوء سوري في لبنان، ومَن وراء تهجير السوريين، ولماذا لا عودة إلى سوريا لهؤلاء، أقلّه في الوقت الحاضر.

لا خيار لدى لبنان غير التعاطي مع أزمة يمكن وصفها بالوجودية، باتت مرتبطة بالوضع الإقليمي ومستقبل سوريا نفسها، بعيداً عن السقوط في لعبة التحريض على السوريين من جهة، والذهاب إلى فتنة، سيقع ضحيّتها المسيحيون خصوصاً من جهة أخرى. هذه فتنة يبدو البلد الذي تتحكّم به إيران في غنى عنها…

 

Loading...