بقلم: محمد قواص
تطرح جولة الحرب الجديدة التي يخوضها الأردن على حدوده مع سوريا أسئلة جديدة بشأن غايات الهجمات التي يتعرّض لها والتي تتجاوز المكافحة التقليدية لعصابات تهريب المخدّرات. وقد تطوّر الأمر من مسألة تهريب حبوب الكبتاغون إلى عمليات عبور الأسلحة الأتوماتيكية والصاروخية.
كان الجيش الأردني أعلن السبت الماضي أنّ عدداً من مهرّبي المخدّرات والأسلحة قُتلوا خلال اشتباكات بدأت عند الفجر في أثناء تسلّلهم من سوريا عبر الحدود الشمالية للمملكة. كما أعلن في وقت سابق أنّه طارد عدداً كبيراً من المهرّبين الذين كانوا يحملون شحنات من المخدّرات والأسلحة وعبروا الحدود وسط الضباب الكثيف. وقالت مصادر مخابراتية أردنية إنّ الأردن شنّ يوم الخميس الماضي ضربات جوّية داخل سوريا مستهدفاً ما يُشتبه بأنّه مستودعات ومخابئ لمهرّبي مخدّرات على صلة بإيران.
لا يمكن إلّا وضع ما يتعرّض له الأردن على حدوده السورية والعراقية في سياق استهداف ممنهج ومبرمج يأخذ واجهات مختلفة. وعلى الرغم من تمسّك عمّان بلهجة سياسية متوازنة وتعاملها بشكل مدروس مع التحدّيات الحدودية، غير أنّ صاحب القرار يدرك تماماً أنّ رياحاً خبيثة تُنفخ بلا توقّف باتجاه البلاد تستهدف موقف المملكة وموقعها ومستقبلها على الخارطة الدولية. وقد زار الملك الأردني عبد الله الثاني الحدود الأردنية السورية عدّة مرّات، وأطلق سلسلة رسائل وتهديدات وعبّر عن إصرار على مواجهة "الحرب العابرة للحدود".الأذرع الإيرانية والمشهد السوريالي
كانت سورياليّةً تلك الحشود التي دفعت بها الفصائل الموالية لإيران في العراق إلى الحدود مع الأردن للمطالبة بفتح حدود المملكة من أجل التوجّه إلى فلسطين دعماً لغزّة. والسوريالية تكمن في أنّ هذه الفصائل اختارت الحدود الأردنية بالذات ولم تذهب باتجاه الحدود مع سوريا المفترض أنّها دولة حليفة لإيران وصديقة لفصائلها الولائية المتعدّدة الجنسيات. ويعبّر هذا السلوك عن نموذج لسلسلة سياسات ومواقف عبّرت عنها طهران من خلال فصائلها ضدّ الأردن خلال السنوات وحتى العقود الأخيرة.
لا يختلف ما يُراد له أن يُعتبر حرباً ضدّ مهرّبي المخدّرات على الحدود السورية الأردنية عن هذا المسار الذي بات استراتيجياً ويشكّل حالة توتّر دائمة لاختراق الأردن. وعلى الرغم من قيام عاهل الأردن بالسعي لدى الرئيس الأميركي جو بايدن في زيارته لواشنطن في تموز 2021 لحلّ ينهي الأزمة السورية، وعلى الرغم من قيام عمّان بمبادرات مباشرة مع دمشق أنعشت التواصل والتفاهمات وتبادل الزيارات بين موفدَي البلدين، غير أنّ هذا التطوّر لم يشفع للأردن ولم يؤدِّ إلى تراجع الأخطار المطلّة من الحدود السورية على الأردن.
كان الملك الأردني قد استعان بعلاقاته مع روسيا ورئيسها فلاديمير بوتين للضغط على طهران ودمشق من أجل سحب الجماعات المسلّحة التابعة لإيران وحرسها الثوري من المناطق الحدودية في مناطق الجنوب السوري في محافظتَي درعا والسويداء المحاذيتين للحدود. وفيما أسفرت جهود الأردن في مرحلة معيّنة عن تخفيف وجود الفصائل المسلّحة في تلك المناطق، غير أنّ عناوين تلك الأخطار استُبدلت بعنوان جديد يُعلّق على مشجب ظاهرة عصابات تهريب المخدّرات التي تدفع بشحنات الكبتاغون عبر الحدود ليس فقط لاستهداف الأردن بل وللمرور عبره باتجاه دول الخليج.
تنسيق أمني أردني سوري
رجّحت بعض المعلومات أنّ تنسيقاً بين الأجهزة الأردنية والسورية أدّى إلى تمكّن القوات الأردنية بما فيها الجوّية من الإغارة على "أمراء المخدّرات" في الأشهر الأخيرة، غير أنّ أوساطاً متابعة في عمّان ترى أنّ تعاون دمشق كان انتقائياً هدفه بعث رسائل إلى دول الخليج عن عزم دمشق مكافحة ظاهرة الكبتاغون. ولفتت هذه المصادر إلى أنّ تراجع زخم الجهد التطبيعي الذي باشرته بعض الدول الخليجية، قبل وبعد قرار جامعة الدول العربية باسترجاع دمشق لمقعدها، يعود إلى عدم إيفاء الرئيس السوري بشار الأسد بوعود قطعها في صدد هذا الملفّ.يدور جدل بشأن ما إذا كان عدم قيام دمشق بضبط الحدود والسيطرة على عصابات التهريب والجماعات الولائية المسلّحة عائداً إلى عدم قدرة أو عدم إرادة، خصوصاً أنّ مصادر النظام في سوريا صارت تبرّر أخيراً عدم نشر قوات سوريّة رادعة في المناطق الحدودية بـ"مراعاة خصوصية السويداء" التي نجمت عن الحراك الشعبي هناك وتجنّب دمشق نشر قوات قد تُعتبر استفزازاً يرفع من مستويات التوتّر في المحافظة.
يكافح الأردن بما يملكه من قدرات استخبارية وأمنيّة وعسكرية التحدّيات الحدودية، غير أنّ عمليات التهريب تحوّلت إلى حرب يستخدم فيها المهرّبون أسلحة ثقيلة لا يمكن إلّا أن تحظى بتغطية سياسية واسعة من دمشق وأذرع إيران في المنطقة، وأنّ لتلك الحرب غايات جيوسياسية تتجاوز مسألة التهريب ومكافحة العصابات. وفيما تتمسّك عمّان باستقلالية تحرّكها بالوسائل الذاتية، فقد يفرض تطوّر هذا الوضع تدخّلاً للتحالف الدولي في إطار مهامّه لمكافحة الأرهاب.
الرسائل الإيرانية إلى الأردن
تبدو رسائل الحدود السورية الأردنية شبيهة بالرسائل التي تبعثها طهران لمن يهمّه الأمر، من خلال ضربات الفصائل الولائية في العراق وسوريا ضدّ المصالح الأميركية، وتلك التي توجّهها جماعة الحوثي من اليمن وباتت تهدّد أمن الملاحة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب. بمعنى آخر فإنّ إيران تضع الورقة الأردنية على طاولة التفاوض مع الولايات المتحدة لتضاف إلى أوراقها في اليمن ولبنان وسوريا والعراق وحتى في غزّة.
في هذا السياق يجب التذكير بموقف العاهل الأردني المبكّر في التنبيه إلى الأخطار التي تشكّلها إيران على المنطقة. وكان الملك قد حذّر في كانون الثاني 2004 ممّا وصفه بـ "الهلال الشيعي" في مقابلة أجرتها معه صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية أثناء زيارته الولايات المتحدة. وفيما تكرّرت تصريحات لمسؤولين أردنيين لاحقاً في الاتجاه نفسه، ذهب رئيس أركان القوات المسلّحة الأردنية محمود فريحات في عام 2016، في مقابلة له مع "بي بي سي"، إلى التحذير من إقامة طهران "حزاماً" برّياً يصل إيران بلبنان.
الأرجح أنّ إيران تقارب الموقف من الأردن استناداً إلى تلك المواقف، خصوصاً أنّ طهران فشلت في تقديم مغريات اقتصادية مقابل تليين موقف عمّان للسماح بفتح البلاد للزيارات الدينية أمام الإيرانيين. وكان وزير الأوقاف والمقدّسات والشؤون الإسلامية الأردني هايل داوود، في عام 2015، قد كشف عن رفض الأردن لطلبات من عدّة جهات إيرانية لفتح باب السياحة الدينية للإيرانيين بشكل منظّم في البلاد.
أكّد داوود أنّ الرفض مرحليّ بسبب الظروف السياسية في المنطقة وبعض المواقف "الإيرانية والشيعية" التي "أسهمت في انتشار الفكر المتطرّف"، بحسب ما قال، إلا أنّ الأمر من جهة أخرى بقي يثير جدلاً داخل الأردن بشأن المداخيل المالية التي يوفّرها فتح المراقد أمام السياحة. ويعتبر مؤيّدو الأمر أنّ تدفّق الحجّاج الإيرانيين على الجنوب الأردني يوازي "اكتشاف النفط".لطالما واجه الأردن بسبب موقعه الجيوسياسي تصدير الأزمات التي انفجرت في سوريا. وفيما إسرائيل تهدّد بترانسفير فلسطيني صوب الأردن وتداعت حروب العراق على يوميّات البلد، تطلّ الأخطار من سوريا لتحمل في امتداداتها الإيرانية أخطاراً داهمة غير مسبوقة.