بقلم: رضوان السيد
في الحرب على غزة بدت قوّة الميليشيا. وهي ليست الأولى، فالميليشيات منتشرة في سبع دول عربية، وهي تهدّد وجود الدولة في تلك الأقطار. وفي رأي الأصدقاء المغاربة ما عاد يمكن الحديث عن نظام عربي خرجت منه سبع من دوله بسبب السيطرة عليها من قبل الميليشيات التي تعمل لمصلحة جهاتٍ إقليمية أو دولية. هل هناك أمل باستعادة الدولة؟ لا أمل في الأمد المنظور.
حنين مغربي إلى لبنان
ذهبت مع وفد الجامعة من أبوظبي إلى الرباط للمشاركة في معرض الكتاب هناك. وبالطبع لا يمكن مقارنة اهتمام المغاربة بلبنان بالدول في المشرق مثل مصر والخليج. لكنّ المثقّفين المغاربة والمعنيين بالشأن العام العربي والدولي، يعرفون الكثير عن لبنان ويحنّون إلى زمانه المنقضي. وهم شديدو الاعتزاز بأنّه خارج الخليج، حيث تسيطر الدول على مواردها وعلى السياسات الداخلية والخارجية للبلاد، ليس هناك غير المغرب حيث تسيطر الدولة (الملك والحكومة ومجلس النواب) على سائر الشؤون، والحكومة منتخبة.
أمّا بقيّة الدول العربية فيسيطر على السلطة فيها وعلى مواردها وسياساتها الداخلية والخارجية الجيش أو الميليشيات، وفي الزمن الأخير (خلال عقدين ونصف عقد) صارت الميليشيات هي الغالبة خارج الخليج، إذ تسيطر في لبنان وسورية والعراق وليبيا والسودان والصومال واليمن. ولذلك يفهم المثقّفون وبعض السياسيين المغاربة أنّه ما عاد هناك “نظام عربي”، وبخاصة بعد الغزو الأميركي للعراق عام 2003. وذلك لأنّ متّخذي القرار في سبع دول عربية على الأقلّ، إضافة إلى فلسطين، هم من التنظيمات المسلّحة إمّا على سبيل المشاركة أو الانفراد. ولأنّ الميليشيات التي تتحكّم أو تتقاسم تابعة لإحدى الجهات غير العربية الإقليمية أو الدولية، فليس من مصلحتها وحدة القرار العربي أو المصلحة العربية كما كانت الأنظمة تفهمها قبل حرب الخليج الثانية.
العرب لن يقاتلوا حماس
إنّ ظاهر سيطرة الميليشيات أنّها عقائدية وهمّها فلسطين أو قضايا مشابهة في الأهمّية كما يبدو الآن في الحرب الإسرائيلية على غزة. وأمّا في الواقع فإنّ همَّ الميليشيات هو تقاسُمُ الموارد بينها وبين الدولة، والانهماك في وسائل الكسب غير المشروع. وهذه “الأنشطة” المحمومة تستنفد الاهتمامات بحيث يتضاءل الحديث والاهتمام بالأهداف الاستراتيجية، ويصبح الهمّ الأساسي: تغييب الدولة أو مضاءلة فعّاليّتها.
بيد أنّ مغاربةً آخرين يرون أنّ المسألة تعود لزمنٍ أبعد حين كان التفكير اليساري في الستّينيات والسبعينيات يقدّس ما يسمّيه بالمجتمع الأهلي الذي غيّبته الدولة الحديثة أو المحدَّثة. والإسلامويون مثل اليساريين غاصوا في المجتمع الأهلي وجنّدوا فئاته الطائفية، وبالطبع هم أكثر نفوذاً من اليساريين بكثير. بل والطريف أنّ بقايا اليسار في الأحوال الحاضرة نجدها متحالفة أو تابعة لميليشيا محلّية أو إسلاموية إمّا بحجّة معاداة العولمة والأميركيين أو معاداة الحكومة (الاستغلالية) القائمة! مع ضعف الدولة إذن بسبب التمرّدات والثورات والحروب برزت قوى المجتمع الأهلي، لا المدني، وصارت عندها ميليشيات حامية ومتعيّشة على التقاط الموارد من الخارج ومن الداخل. ولأنّ المجتمع فيه انقسامات طائفية وجغرافية ولغوية وثقافية، فكذلك كانت طبيعة الميليشيات التي انبثقت عنه.
يعود الفريق الأوّل المعنيّ بالسياسات العامّة إلى الحديث فيستدلّ على ضعف اعتبار المصالح العليا في السياسات بما يحدث حول غزة الآن. فالدول العربية بعامّة تريد الدولة الفلسطينية. بيد أنّ أحداً منها لا يريد المشاركة في إدارة غزة بعد الحرب، إمّا بحجّة بقاء إسرائيل بشكلٍ ما في القطاع أو بقاء حماس. وصحيح أنّ الدول العربية لا تقبل حماس، لكنّها من ناحية ثانية لا تريد مقاتلتها لمصلحة إسرائيل. وهكذا لم يبق من الدول العربية بالمشرق غير دول الخليج والأردن ومصر ليست مستعدّةً لإرسال عساكر إلى غزة كما كانت تفعل لفضِّ النزاعات في تونس قديماً والصومال ولبنان. وأيّاً تكن الحجّة في حالة غزة، لا يبقى لإدارة القطاع غير إسرائيل أو القوات الدولية التي لا تكون فاعلةً في حالات استمرار النزاع كما يبدو في جنوب لبنان.
تنظيرٌ لحالة الضعف
هو تنظيرٌ ملائم لحالة الضعف الدولتيّ بالمشرق، وزوال النظام العربي حيث لا تريد دولةٌ واحدةٌ التصدّر والقيادة. وبالتالي تحمّل المسؤولية خشية العجز أو الفشل أو التورّط غير المأمون النتائج. وإذا كان ظهور الميليشيات بين أسباب زوال النظام العربي، فما الحلّ مع الميليشيات؟
لا يرى مثقّفو المغاربة وسياسيّوهم أملاً باستعادة الدولة في المدى القريب بدول المشرق المضطربة. فالدول الخارجية في الإقليم مثل إيران وتركيا، والعالم مثل الولايات المتحدة، ما تزال صاحبة مصلحةٍ في هذه الميليشيا أو تلك. ثمّ إنّ الميليشيات تداخلت بقوّةٍ مع القوى السياسية الطائفية وغير الطائفية بحيث ما عاد الفصل ممكناً إلا إذا ظهرت طبقات سياسية جديدة. لكن كيف ستظهر؟ وأخيراً فإنّ الضغط على الميليشيات من أيّ جهةٍ أتى قد يؤدّي إلى تقسيم الدول تبعاً لانقسام المجتمع. وأصعب الأماكن لاستعادة الدولة، في نظر الأصدقاء المغاربة، هي لبنان واليمن والسودان حيث الانقسام الاجتماعي/ السياسي عميق عميق. أمّا بلد كسورية فالصعوبة فيه تعود إلى كثرة المتدخّلين الإقليميين والدوليين. أمّا العراق فيكفي أن تسمح إيران، ولن تسمح! أوليست هناك مقاربة أخرى؟
يعيدك بعض الأصدقاء المغاربة إلى الماضي. يقولون إنّ الحرب الأميركية فكّكت الدولة بالعراق. أمّا التدخّل الإيراني والروسي ففكّك الدولة والشعب بسورية. أمّا ليبيا فيتشارك الأميركيون والأوروبيون وأخيراً الأتراك في المسؤولية. وهكذا لا يمكن التفكير إلا بالتلاقي بين الأطراف المتدخّلة على الانسحاب. إنّما هناك من يحزم أنّه بالانسحاب يعود الاقتتال الداخلي، ولذا لا بدّ أن يتّفق المتدخّلون على إعانة البلاد للخروج من المآزق وليس التوافق على الخروج فقط. وحتى الآن لا يتحدّث عن الانسحاب (وإن لم يفعلوا) غير الأميركيين. أمّا الآخرون وعلى الرغم من الخسائر فلا يتظاهرون بالانسحاب أو بإرادته. وعلى أيّ حال، فإنّ التوافق الآن بين القوى الدولية مستحيل، وأمّا بين القوى الإقليمية فهو صعب جداً. على الرغم من أنّ الأتراك والإيرانيين والروس يديرون الملفّ السوري معاً، وإن اختلفت الأهداف.
ثقافة الميليشيات غير ثقافة الدولة. وكذلك سياساتها أو تحالفاتها. وفي نظر المغاربة لا أمل في مستقبل عربي بدون الدولة، لكنّ الدولة صعبة الحضور في هذه الظروف. والخيار المفكّر فيه وليس المطروح هو الجيش. والجيش أفضل للاستقرار الأمني، لكنّه ليس أفضل كثيراً لجهة الموارد وتنميتها.
عن موقع أساس