تعيش إسرائيل أزمة كبيرة بعد الفشل الذريع في حربها الدموية على غزة. فالأهداف التي أعلنها رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، للحرب على غزة لم يتحقق أي منها، فلا استطاعت إسرائيل القضاء على حركة «حماس» بدليل أنها تعيد اجتياح مناطق سبق وسيطرت عليها وادعت أنها قضت فيها على كتائب الفصائل الفلسطينية، ولا هي قدرت على تحرير المحتجزين الإسرائيليين الموجودين في غزة، ولا حققت الأمن لغلاف غزة، ولا أنهت التهديد الفلسطيني القادم من القطاع. وحتى اللحظة لا تزال الصواريخ تنطلق من القطاع الذي يتعرض لحرب إبادة جماعية. والفشل الأكبر هو عدم قدرة إسرائيل على وضع تصور واقعي للمرحلة التي تلي الحرب. بل إن الواقع على الأرض يشي بأن كل شيء يمكن أن يعود إلى ما قبل السابع من أكتوبر مع الوقت، وأن حركة «حماس» قادرة على الانتظام من جديد وبناء قدراتها في غزة بمجرد أن تنسحب قوات الاحتلال. وتجربة شمال غزة قائمة وحيّة. وهذا ربما يشكل جوهر الخلاف بين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن الذي يشعر أنه مهدد بخسارة الانتخابات بسبب استمرار الحرب دون أي أفق لوقفها وأي مخطط لليوم التالي لها.
إسرائيل تركز على اجتياح رفح باعتباره المدخل لتحقيق النصر الكامل الذي يريده نتنياهو، مع العلم أن غالبية الساسة والقادة العسكريين والخبراء والمحللين السياسيين الإسرائيليين يشككون في قدرة الجيش الإسرائيلي على الانتصار الذي يحقق أهداف الحرب. والخلاف مع الولايات المتحدة حول رفح لا يتعلق باجتياح المدينة واحتلالها، بل بقدرة الجيش الإسرائيلي على تنفيذ العملية دون وقوع خسائر كبيرة في صفوف المدنيين الفلسطينيين. والإدارة الأميركية تقول: إنها لم ترَ خطة إسرائيلية قابلة للتحقيق بشأن إخلاء المدنيين. والتناقض في المصالح التكتيكية بين الطرفين مرتبط برغبة واشنطن في ترتيب الأوراق في المنطقة ما بعد الحرب، بحيث تصل إلى تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية، وإقامة تحالف جديد يمنع الصين وروسيا من التمدد في المنطقة، وبناء قواعد وتحالفات مع الدول العربية. وهذا يمر عبر وقف الحرب وعودة السلطة الفلسطينية «المحدثة» لغزة، وفتح أفق سياسي قد يؤدي إلى حل الصراع وتحقيق السلام.
نتنياهو يرفض هذا المسار، ويعتقد أنه يستطيع تصميم الواقع في غزة دون منح الفلسطينيين كياناً موحداً يقود إلى دولة مستقلة في نهاية المطاف، ويصر على إنشاء إدارة فلسطينية محلية في غزة تستبدل حكم «حماس» ولا تسمح بعودة السلطة إلى غزة. ولكنه يواجه مأزقاً كبيراً في هذا التوجه حيث لا يجد شريكاً فلسطينياً، حتى لو كان على مستوى الأفراد، لتنفيذ هذا المخطط، ما اضطره للتفكير بإعادة بناء الإدارة المدنية التابعة لجيش الاحتلال في غزة، لتقوم بمهمات الإغاثة والاهتمام بحاجات الناس الإنسانية، إلى حين توفر الإدارة أو الهيئة الفلسطينية البديلة والمستعدة للتعاون مع الاحتلال. بل إن موضوع غزة بدأ يتعقد بعد السيطرة على معبر رفح. فهذا خلق توتراً كبيراً مع مصر التي بدأت تلمّح بسحب سفيرها من تل أبيب وخفض مستوى علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل، ما دفع الحكومة الإسرائيلية إلى اقتراح لتسليم موظفين من السلطة معبر رفح دون أن يكون وجودهم رسمياً ويمثل السلطة. أي أن يكونوا مجرد لجنة مدنية للإشراف على إدخال المساعدات. وهذا ما أغضب السلطة وجعلها ترفض الفكرة بشكل كامل وتصر على وضع تصور كامل لوضع غزة بدءاً بوقف إطلاق النار.
حركة «حماس»، من جانبها، باتت تتحدث عن عدم عودتها لحكم قطاع غزة بعد الحرب، على أساس أن الوضع لا يحتمل أن يبقى القطاع محاصراً وفي ضائقة بسبب سلطة «حماس»، وهي تقترح إما حكومة توافق وطني دون مشاركة «حماس» فيها ولكن بموافقتها، ويمكن أن تكون حكومة تكنوقراط من شخصيات مستقلة، أو الذهاب إلى إدارة مؤقتة لشؤون قطاع غزة من شخصيات محلية متفق عليها بين الفصائل. وهذا الخيار الثاني في الواقع لا يختلف عن الطرح الإسرائيلي سوى في الغطاء الذي سيكون لهذا الجسم.
والمأزق الفلسطيني يكمن في عدم وجود اتفاق وطني حول مرحلة ما بعد الحرب ولا حتى حول إدارة الأمور في الوضع الراهن. وكل طرف سواء القيادة أو السلطة من جهة، و»حماس» من الجهة الثانية، يغني منفرداً على ليلاه. وكأننا لا نعيش كارثة كبرى هي أقسى ما تعرض ويمكن أن يتعرض له الشعب الفلسطيني. ومن يحلم أن الحديث المتكرر دولياً بشأن حل الدولتين، حتى لو حصل اعتراف بفلسطين من قبل دول عدة، سيغير الواقع وسيقود إلى الدولة الفلسطينية دون أن يتهيأ الوضع الفلسطيني الداخلي بشكل يتناسب مع متطلبات قيام الدولة، يحلم ولا يدرك طبيعة التعقيدات الدولية. نعم هناك فرصة لم تكن بهذه القوة في أي وقت مضى، ولكن أيضاً هذه الفرصة قابلة للضياع بأيدينا إذا لم نحسن التصرف.
هناك أمران لا بد أن يحدثا فلسطينياً حتى ندفع العالم لفرض الدولة الفلسطينية: الأول الإسراع في تحقيق الوحدة الوطنية على أساس برنامج منظمة التحرير، والشروط القائمة اليوم تسمح بذلك، وتتطلب من الجميع التحلي بالمرونة من أجل هذا الهدف الوطني. والثاني بناء مؤسسة وطنية واحدة لحكم المناطق الفلسطينية بتوحيد الضفة والقطاع المحتلين وليكن اسمها حكومة فلسطين. أولاً للتوافق مع الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، وأيضاً لتجاوز الخلاف حول «أوسلو». فالسلطة بشكلها الحالي، وأدائها الضعيف، لوحدها لا يمكنها أن تسيطر وتخلق شروط الدولة في ظل الانقسام والفشل في الاستجابة لحاجات المواطنين وفي تحقيق أي إصلاح. حتى عندما يجري الحديث عن حكومة بصلاحيات، يتم قضمها بشكل سريع بتحويل الإعلان عن الإصلاح إلى مجرد ملهاة لا يمكن تسويقها. وعندما لا تكون هناك مرجعية وطنية للإشراف والرقابة على الأداء. ولا «حماس» قادرة على القيام بأي شيء لحل مشكلات قطاع غزة التي كانت سبباً جوهرياً في حدوثها، وقد فشلت في حكم غزة، وعليها إدراك أن الوطن أكبر من الجميع.