لبنان ملك الفرص الضائعة

لدى التمعّن في الظروف التي أحاطت بجريمة ربط لبنان ومصيره بحرب غزّة، يتبادر إلى الذهن، أوّل ما يتبادر، الفرص التي أضاعها لبنان على نفسه منذ أقلّ بقليل من نصف قرن، أي منذ اندلاع الحرب الأهليّة في 13 نيسان 1975. تدخل جريمة ربط لبنان ومصيره بحرب غزّة في سياق طويل بدأ مع توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في تشرين الثاني 1969 حين بدأ الخلاف العميق والمستمرّ بين لبنان والمنطق. إنّه خلاف يجعل لبنان يستحقّ لقب ملك الفرص الضائعة.

كانت الحرب التي اندلعت في 1975 حرباً بين اللبنانيين أنفسهم كما كانت حروب الآخرين على أرض لبنان. كانت تلك الحروب تستهدف، بين ما تستهدفه، السيطرة على الورقة الفلسطينيّة. أراد غير طرف عربي الإمساك بالورقة الفلسطينيّة، خصوصاً بعدما صار جنوب لبنان بفضل اتّفاق القاهرة الجبهة العربيّة الوحيدة المفتوحة مع إسرائيل. كان النظام السوري في طليعة الساعين إلى الإمساك بلبنان بسبب الورقة الفلسطينية في مطلع سبعينيات القرن الماضي. جاء ذلك مع وصول حافظ الأسد إلى السلطة ومع حصول نظامه الأقلّويّ على شرعيّة داخلية وعربيّة نتيجة خوضه، إلى جانب مصر، حرب تشرين في عام 1973. قال حافظ الأسد بصوت مرتفع إنّ “القرار الفلسطيني المستقلّ مجرّد بدعة”. كانت تلك حجّته للعمل على ضبط ياسر عرفات وحشره في لبنان تمهيداً لطرده منه في عام 1982 ثمّ مرّة ثانية في 1983 عندما عاد “أبو عمّار” إلى طرابلس. كان يريد إبلاغ العالم ما تريد إبلاغه إيران حالياً. أي أنّ الورقة الفلسطينيّة ورقة سوريّة.

إلى جانب جبهة جنوب لبنان، التي لم تُغلق يوماً، صارت هناك في هذه الأيّام جبهة ثانية مفتوحة هي جبهة غزّة. هذه جبهة فتحتها “الجمهوريّة الإسلاميّة” عن طريق “طوفان الأقصى” في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي. أرادت إيران التي استثمرت طويلاً في “حماس” تصفية حسابات خاصة بها مع إسرائيل وتأكيد أنّ لديها القدرة على تهديدها من داخل. ليس معروفاً كيف يستطيع الحزب، وبأيّ منطق غير المنطق الإيراني، السماح لنفسه بفتح جبهة جنوب لبنان بحجّة “مساندة غزّة”. تدفع غزّة حالياً ثمن “طوفان الأقصى” من جهة والوحشية الإسرائيليّة التي لا حدود لها من جهة أخرى. كلّ ما أسفرت عنه عملية فتح جبهة جنوب لبنان، في ضوء الدمار الذي لحق بغزّة، يتمثّل في تأكيد أنّ قرار الحرب والسلم في لبنان بات قراراً إيرانياً. بات لبنان كلّه ورقة إيرانيّة على غرار العراق وسوريا وشمال اليمن… بعدما كان في مرحلة معيّنة ورقة سوريّة ثمّ ورقة سوريّة ـ إيرانية.

لم يكن لبنان في 1975 ضحيّة لحرب أهليّة تسبّبت بها عوامل عدّة، بينها الوجود المسلّح الفلسطيني وغياب الوعي لدى معظم القيادات الإسلاميّة لخطورة اعتبار الفلسطينيين “جيش المسلمين” والعجز المسيحي عن فهم ما يدور في المنطقة وفي العالم… وخطورة إنشاء ميليشيات مسلّحة.

ما حدث أيضاً أنّ لبنان فوّت على نفسه في تلك المرحلة أيّ استفادة من الفورة في أسعار النفط، وهي فورة جاءت بعد حرب 1973 والقرار السعودي باستخدام سلاح النفط دعماً لمصر وسوريا. فوّت لبنان على نفسه فرصة أن يكون جزءاً لا يتجزّأ من النهضة التي تشهدها دول الخليج العربي، وهي نهضة يشارك فيها لبنانيون يقيمون خارج لبنان. من يريد التأكّد من ذلك، يستطيع الذهاب إلى أبو ظبي أو دبي ليشاهد بأمّ العين قدرات الفرد اللبناني وإمكاناته الكبيرة التي لا حدود لها عندما يجد نفسه في بلد آمن ومزدهر فيه سلطة القانون، أكان في الخليج أو في أوروبا.

منذ عام 1975، دخل لبنان مرحلة إضاعة الفرص. كان مشروع رفيق الحريري الذي أعاد الحياة إلى بيروت استثناءً. في كلّ يوم يمرّ، تظهر كم كانت الحاجة ماسّة إلى التخلّص من رفيق الحريري كي يكون هناك ضبط إيراني للبنان بغطاء سوري في البداية ومن دون هذا الغطاء كما هي الحال الآن.

مسموح للّبنانيين ممارسة الإبداع وإنّما خارج لبنان. ذلك يبدو شعار المرحلة التي نرى فيها بلداً يدخل في حرب لا أفق سياسياً لها. لا أفق لهذه الحرب بمقدار ما أنّها حرب تصبّ في عملية عزل البلد عن محيطه العربي وتهجير أكبر عدد من مواطنيه الصالحين من ذوي الخبرات.

يبدو قدر لبنان أن يدفع ثمن كلّ الفواتير التي لا يريد أن يدفعها غيره في المنطقة. بقدرة قادر صار الجبهة الوحيدة، مع جبهة غزّة، التي تمارس منها إيران لعبة إثبات أنّها على تماسّ مع إسرائيل… بل إنّها دولة على شاطئ المتوسط أيضاً.

إلى متى يستمرّ لبنان في دفع ثمن توقيع اتّفاق القاهرة الذي لم يعِ سياسيّوه، باستثناء الراحل ريمون إدّه، مدى خطورته ومعنى وجود سلاح غير شرعي على أرضه… ومعنى إضاعة الفرص التي يسمح له شعبه وموقعه في المنطقة بأن يكون في طليعة من يستطيع الاستفادة منها؟

لدى محاولة الإجابة عن هذا السؤال، يقفز إلى الواجهة سؤال آخر مرتبط إلى حدّ كبير بوضع البلد في مرحلة ما بعد حرب غزّة. ما الذي ستفعله إسرائيل في حال قرّر الحزب الاكتفاء بإغلاق جبهة الجنوب وبقاء الوضع فيه كما كان عليه قبل “طوفان الأقصى”؟

يبقى الثابت الوحيد أن ليس ما يشير، بسبب الاحتلال الإيراني، إلى أنّ لبنان سيتمكّن قريباً من العودة إلى بلد يستطيع استغلال الفرص المتاحة إقليمياً بدل أن يكون ملك الفرص الضائعة… وملك استجلاب حروب لا مصلحة له في استجلابها.

 

Loading...